في الفترة السابقة للانتخابات التشريعية و الرئاسية التي أقيمت في تونس سنة 2014 و في رده عن سؤال وجه له أجاب أمين عام” نداء تونس “حينها ” الباجي قائد السبسي ”  و الذي سيصبح بعد أسابيع من هذا التاريخ رئيسا للجمهورية التونسية بعبارة ” ماهي إلا مرا ” تعليقا على موقف اتخذته النائبة بالمجلس الوطني التأسيسي ” محرزية العبيدي ” عن حزب النهضة.

كسليل مفترض للفكر ” البورقيبي ” أثارت عبارة ” ماهي إلا مرا ” لغطا كبيرا داخل أنصار ” الباجي قائد السبسي ” قبل خصومه باعتبار النواة التي تم من حولها بناء هذا المشروع السياسي و القائمة أساسا على تسويق فكرة ” الباجي ” كامتداد فكري ” لبورقيبة ” محرر المٍرأة التونسية ” و لئن امتعض أنصار ” قائد السبسي ” من هذا التصريح و اجترعوه بصعوبة فإن خصومه ذهبوا أشوطا في تأويل ذلك إلى ” بذور ” مستقرة في ” لاوعي ” الرجل سياسيا و ذكوريا.

دار جواد ..  السجن الجامع

داخل كل بيت تونسي تقريبا غرفة مخصصة للأمور الطارئة من قبيل قدوم ضيف ما دون سابق إشعار حيث يقع تجميع كل ما يتعلق بالفوضى و رميه داخل هذه الغرفة على عجل إلى حين مغادرة الضيف الثقيل و لعل الطريف في الأمر هو أن التعامل مع التاريخ في تونس و خصوصا مع صفحاته غير المشرقة يتم تقريبا بنفس الطريقة و في غرفة مثل التي ذكرناها بحجة الإبقاء على الغسيل الداخلي داخليا.

الحديث عن “دار جواد ” كمؤسسة سجنية أوجدتها السلطة الدينية  لتأديب النساء اللاتي يخرجن عن طاعة الأزواج هو نبش في ذاكرة شبه مقبورة حتى أن المراجع الأمينة و التي يمكن الاستناد إليها تبقى شحيحة و نادرة الوجود خصوصا مع تناول الموضوع في السينما من خلال قصة مركبة بعناية أودت بعدد من النسوة إلى هذا المكان القامع للحرية و جعلت من حكاياتهن وقودا لتقاطعات عدة من المخاض السياسي الذي كانت تعيشه تونس في خمسينات القرن الماضي إلى القصص الفردية مرورا بتناقضات مثل الرغبة في التحرر و الإمعان في رفضه و هو الأمر الموزع بالعدل بين الجنسين في فيلم ” الجايدة “.

بين الوثيقة التاريخية و التاريخ المعاد تركيبه

ينتهي فيلم ” الجايدة ” بمشهد حقيقي لعودة الرئيس ” الحبيب بورقيبة ” من المنفى في غرة جوان 1955 مع إدغام مشاهد إضافية و متخيلة تضم عددا من بطلات فيلم ” الجايدة ” ضمن مستقبلي ” بورقيبة ” في إشارة إلى أن عودته هذه مرادفة للحرية في مفهومها الواسع.  يتم استعمال الوثائق التاريخية عموما من صور و خطابات و مشاهد مصورة سواء في السينما أو المسرح أو حتى الأدب قصد البناء حولها و تكوين نسيج جديد يدين بالفضل للوثيقة الأم و لكنه ينتمي في النهاية لصاحب العمل و هذا ما يطرح حقيقة و بشكل متكرر السؤال حول ذلك الحجم من الأمانة الذي يجب أن يلتزم به صاحب العمل بين ما يمنحه إياه الإبداع من هامش حرية و بين ما يمكن أن تمريره بقصد أو بغيره من رسائل مغلوطة.

في واقع الأمر لا يمكن اعتبار فيلم ” الجايدة ” وثيقة تاريخية يمكن العودة إليها لدارسة تلك الحقبة من الزمن في تاريخ تونس لاعتبارات كثيرة لعل أهمها هو أن العمل اشتغل على أجزاء تاريخية حقيقة و هامة في تاريخ البلاد و لكنه أعاد تركيبها و توزيعها بشكل مغاير إلى درجة حولته أو كادت إلى عمل يهمش القضية/المركز التي يعمل عليها.

لا يشير فيلم ” الجايدة ” لا من قريب أو من بعيد  إلى مساهمة المرأة التونسية في مشوار التحرر الوطني ضد المستعمر الفرنسي و هو  وفي الحقيقة غير مطالب بذلك لتقيده بفترة زمنية تدور خلالها أحداثه و لكن المنزلق الحقيقي ربما و الذي يمكن الإشارة إلى الوقوع فيه هو تلك العبارة التي حددت فعلا و بشكل غير دقيق توزيع الأدوار التاريخية خلال تلك الفترة و التي جاءت على لسان ” بلال الباجي ” حين كان يردد ” المرا تناضل في دار جواد و الراجل في الشارع ” فالعمل غير مطالب كما أسلفنا بالعودة إلى معطيات بعينها لكنه و في المقابل معني بعدم طمسها أو تحريفها نحو وجهة أخرى رأينها سياسية بامتياز .

هل أغلقت دار جواد ؟

دون قرار لغلق ” دار جواد ” و دون الإشارة إلى ذلك في نهاية الفيلم يبدو أن المخرجة التونسية ” سلمى بكار ” قد اختارت هذا النهج للتأكيد على أن هذه الدار لم تغلق و إن كان ذلك بشكل مجازي و للإصرار  ربما على تواصل معركة التحرر رغم الهنات التي ذكرناها فالمعركة مع السلطة الدينية المتحجرة متواصلة و المعركة مع العقلية الذكورية و عقلية ” ماهي إلا مرا ” المذكورة بالمناسبة داخل الفيلم في أكثر من مناسبة مستمرة و إن اختلفت السياقات .

منيرة الزكرواي و نجوى ميلاد .. نجوم ظل

الطفرة الحاصلة في المشهدين التلفزيوني و السينمائي في تونس خلال السنوات القليلة الماضية أعادت إلى المشهد بعضا من التوازن بظهور عدد من الوجوه التي أنفقت جزء كبيرا من عمرها و من تجربتها في المسرح التونسي اختيارا أحيانا و لتقلص الفرص في أحيان كثيرة على غرار ” منيرة الزكرواي ” و ” نجوى ميلاد ” اللتان لفتتا الأنظار داخل فيلم ” الجايدة ” بقدرة عالية على التقمص و الانسجام داخل الشخصيات.  هذا بالإضافة إلى ” الكبيرة ” “فاطمة بن سعيدان ” صاحبة الكعب العالي و التجربة الطويلة في المسرح و السينما التونسية و التي تقود منذ سنوات طويلة ثورة نجوم الظل في تونس.