بشكل شبه منطقي لا يمكن فصل حقيقة واقع ثقافي أينما كان عن تلك الصورة التي من خلالها يتم تقديمه بها والحديث عن التلازم هنا يكون في الغالب قطعيا حين يتعلق بالثقافي كنتاج مجهود في شكل عمل واضح المعالم أو في شكل مسيرة وصورة ذلك فيما يمكن تسميته مجازا بالإعلام الثقافي.

الحديث عن إعلام ثقافي حقيقي يبقى دائما ضربا من ضروب المجاز اللغوي وذلك بالعودة دائما إلى حقيقة الواقع الثقافي ” عربيا ” وبالنظر إلى المكانة التي تحتلها الثقافة في هذه المجتمعات سواء تعلق الأمر بالجانب الرسمي صاحب اليد الطولى في رسم الخطوط العريضة للثقافي من خلال الوزارات أو من خلال الاعلام وصولا إلى المعنيين المفترضين بهذا النتاج الثقافي والذين يصبح الفعل الثقافي لديهم ضربا من ضروب الرفاه باعتبار التردي المعيشي والاقتصادي.

في خضم البحث البطيء عن التعريفات بمحاولة تركيب القطع المتفرقة والضبابية داخل إشكالية تلازم الثقافي والإعلامي تعلو قهقهة التجارب المنفلتة من عقال الرقابة والرقيب ومن روتين المكاتب والتأشيرات والمنع والتي أسست نفسها وشرعت لذلك داخل “الأنترنيت ” كمنطقة للتبادل الفكري والثقافي الحر.

بين الاعلام الخاص والعام من يحدد المزاج الثقافي العام؟

من الطبيعي أن تذهب المؤسسات الإعلامية الخاصة في تونس الى البحث عن أسباب الربح المادي وطرقه لضمان البقاء والاستمرار في التواجد في الوقت الذي تقف فيه المؤسسات الإعلامية العمومية على طرف النقيض الآخر وهي التي تتلقى كل تمويلها من الضرائب التي يسددها المواطنون للدولة بين الحالتين يتشكل المزاج الثقافي العام بين الطرف الأول الذي يسعى جاهدا و بشكل وحشي في أغلب الأحيان إلى تغليب كفة نوعية معينة من الفنانين المسرحيين و الموسيقيين القادرين على استقطاب النسبة الأعلى من المشاهدين ثم و في مرحلة موالية التسويق لهؤلاء على أنهم الانعكاس الفعلي لصورة الثقافي و الأولويات هنا تكون في الغالب للقيمة التسويقية على حساب القيمة الإبداعية لذا يغيب الكتاب والروائيون و الشعراء الذين لا جمهور لهم من جهة و لا تراهن عليهم المؤسسات الاقتصادية بوضع ومضاتها الاشهارية بجانب صورهم و هو بالمناسبة شكل من أشكال تسويق المعلومة الخاطئة تماما بأن الناس لم تعد تقرأ هذا طبعا بالإضافة إلى الرسامين و الى النحاتين و الموسيقيين البعيدين عن التجاري و غيرهم.

في الجهة الأخرى سقط الاعلام العمومي في تونس برصانته المقلقة وسط إشكاليات أخرى لعل أهمها توجهه بشكل تلقائي نحو المنافسة مع القطاع الخاص وهو أمر لم يحتمله اللوجيستي ولم يتهيأ له العنصر البشري لكن الأمر يبدو أكثر تعقيدا حين يتعلق بموضوع الاعلام الثقافي بشكل محدد.

في التلفزة الوطنية أمران يعيقان بلوغ المرحلة التي يمكننا فيها الحديث عن اعلام ثقافي برأس مرفوعة وهما غياب الرؤية الواضحة داخل البرمجة و داخل المساحات المخصصة للثقافي و الأمر الثاني و الذي لا يبدو منفصلا عن الأمر الأول هو أن كل الاختصاصات تقريبا يقع تدريسها داخل معهد الصحافة و علوم الاخبار بتونس باستثناء ” الثقافي ” و الذي يبقى في تقديرنا الخاص منضبطا للتكوين الفردي و الذاتي و لصيقا بالشغف قبل الأكاديمي الأمر الذي جعل التلفزة التونسية و عبر تاريخها تنخرط في تجارب تعاون خارجية مع كتاب ومثقفين لتقديم برامج ثقافية متميزة وفارقة لكن هذه التجارب كانت سرعان ما تنتهي لاعتبارات بيروقراطية أو إدارية أو حتى دون اعتبارات وتوضيحات تماما مثلما حصل مع ” بيت الخيال ” للروائي  ” كمال الرياحي ” و الذي توقف في الفترة التي بلغ فيها توهجه و نجاحه.

“مش ممنوع” مع عماد دبور .. رهان ثقافي جديد داخل التلفزة الوطنية

يراهن فريق عمل برنامج ” مش ممنوع ” والذي انطلق عرضه منذ مدة قصيرة على العودة الى اللقاءات الحوارية شبه التقليدية مع عدد من الكتاب والفنانين والشخصيات الإشكالية في جميع الاتجاهات ويتولى الإعلامي التونسي ” عماد دبور ” تقديم هذا البرنامج بعد تجربة طويلة في مجال التقديم والكتابة انتهت أخيرا بانتاج فيلم ” أوغسطينوس ابن دموعها ” و لعل العودة الى عرض البرنامج بالتلفزة الوطنية التونسية تحمل في داخلها رهان العودة الى الوطن الأم و هو الرهان الذي يلوح رابحا إلى حدود الساعة خصوصا و أن هذا البرنامج الذي كان قد انطلق في عدد من القنوات و المنابر الأخرى كان يحمل سابقا عنوان ” ممنوع ” ليتحول إلى ” مش ممنوع ” تيمنا ربما بارتفاع سقف حرية التعبير في تونس الثورة.

اللقاءات في مجملها تم تصويرها خارج تونس ولعل غير التقليدي تماما فيما تم تقديمه هو الاعتماد على الحركة وعلى الخروج من الأماكن المغلقة وضوء النهار خارج الاستديو هات المغلقة في الكثير من الأحيان وهو عمل دقيق يقف وراءه المخرج ” رامي سمير ” الأمر من شأنه وضع الضيف في حالة أكثر طبيعية بارتياده الأماكن التي يرتادها في حياته اليومية مع الحرص على الحفر في التفاصيل التي تم تحديدها سلفا في مرحلة الاعداد.

حلقة مش ممنوع مع المسرحي توفيق الجبالي

حلقة مش ممنوع مع المسرحي توفيق الجبالي

الضيوف الذين تبرزهم الشارة الرسمية للبرنامج يلوحون من تخصصات ومشارب مختلفة من السينما والدراما مثل رغدة ومحمود حميدة ودريد لحام ومنى واصف و توفيق الجبالي والموسيقى مثل مرسال خليفة  و أميمة الخليل و جورج خباز وعدد آخر من المفكرين والكتاب العرب مثل ألفة يوسف و يوسف زيدان و كريم العراقي  ولئن كان كل الضيوف المذكورين من أهل الفن والثقافة التي نعرف والتي خبرناها وتربت ذائقاتنا عليهم فإن حلقة ” أحمد مساد ” ربما كانت دليلا على تموقع ” مش ممنوع ” ضمن “زمنه ” بمواكبة الظواهر والأسماء التي خلقت لنفسها هامشا داخل ” الأنترنيت ” ومحاولة تقريبها لعموم جمهور التلفزيون.
كل الحلقات التي تم تمريرها الى حدود الآن فيها حفر و نبش داخل نفوس الضيوف باعتماد مبطن على معرفة و المام مسبق بعدد من التفاصيل التي تعمل الأسئلة على استصدارها بشكل طوعي من الضيف خصوصا تلك التفاصيل المتعلقة بالحياة الشخصية الى حدود معينة أو المتعلقة بالمواقف السياسية الأمر الذي لمسناه جليا في حلقة الممثل السوري دريد لحام.
أن تراهن التلفزة الوطنية في تونس على برنامج مثل ” مش ممنوع ” فهذا أمر محمود وجيد فبالقدر الذي يتم به تأمين مضمون ثقافي جيد وجدي فإن من شأن مثل هذه البرامج أن تعيد التلفزة العمومية التونسية إلى مدارها العربي دائما من بوابة الثقافي.