لكل مدينة ذاكرة ترسم بالتراكم التدريجي من خلال الأماكن والأنهج والساحات التي تشكل الهوية والمعنى بمرور الزمن وتعاقب الأحداث و الأشخاص عليها ولعل الحانات في هذا هي واحدة من أهم أماكن صناعة الذاكرة والنوستالجيا و هي الواقفة في المنتصف تماما بين اختزال كثافة المدينة وتنوع العنصر البشري واختلافه فيما بينه ، لهذا فإن اعتبار الحانات في تونس فضاء اجتماعيا مميزا يصنع فيه التنوع بكلّ أشكاله هذا دون إهمال تلك الحلقات التي تختلف أماكن إنعقاداها خارج الحانات وصولا إلى جالس منفرد على شاطئ بحر مرورا بالتجمعات الخارجية الأخرى التي تنضبط للجغرافيا و أيضا تلك التي تتمرد عليها.
الحانات في المدن هي علامة من علامات التنوع والثراء الثقافي تماما مثلما هو الأمر في العاصمة التونسية “تونس”وفي باقي العواصم التاريخية في العالم العربي، حاناتها الكثيرة بعضها أغلق وتناسته الذاكرة والآخر مازال يستقبل روّاده من الباحثين عن إقلاع بعد هبوط اضطراري جراء إحباط مختلف الأسباب أو من أولئك القادمين إليها من جهة الانتشاء والفرح طمعا في الحصول على جرعة أعلى وما بينهما يقف القادمون لإطفاء عطش لا أكثر.
في العاصمة تونس اليوم عشرات الحانات (بارات،ونقاط لبيع الخمور) حيث تبقى الدولة يدها ” المحتكرة ” على هذا القطاع من جهة التوزيع بمنع البيع خارج المسالك الرسمية وبتحجير ذلك يوم الجمعة وفي شهر رمضان بحجة احترام الطابع الإسلامي و تستثنى من ذلك الفضاءات السياحية.
بعد الاستقلال تقلص عدد الحانات التي ورثتها تونس عن المستعمر الفرنسي ورغم ذلك لم يتخلى التونسيون عن شرب الخمرة في الساحات الخارجية للحانات في هذا الصدد يروي لنا أحد الروّاد الأوفياء لمقهى وبار “باريس” الشهير بشارع الحبيب بورقيبة أنّ تونس ظلت متمسكة بمظاهر الحداثة حتّى أواخر السبعينات، نساؤها بلباسهن القصير ومقاهيها التي كانت تقدّم الجعة لمرتاديها حتّى في فضاءاتها الخارجية على الأرصفة أين كانت تنتشر المظلات التي كان يجلس تحتها الحرفاء من الجنسين لتناول المشروبات الكحولية دون اعتبار ذلك عيبا أو تعديا على حرية الآخرين.
منذ نهاية السبعينات وبداية الثمانينات عرفت تونس تغيرا مجتمعيا تدريجيا على مستوى تفكيك مفهوم الحرية و ربطها بوجوب تحجيم المظاهر التي يرى فيها الآخر ” المتدين ” خصوصا مسا من حريته الأمر الذي يعزى في جانب منه إلى تأسيس حركة الاتجاه الإسلامي و تصاعد أسهمها و اتساع قاعدة أتباعها سواء على مستوى التنظم أو حتى باعتناق ما رمت إليه من بعيد. انعكس هذا الأمر على عدد البارات بالمدينة حيث استغل الإسلاميون القانون التونسي الذي يمنع تواجد بار في مسافة تقلّ عن 500 متر عن المسجد، فما كان منهم إلا تشييد عدد من المساجد بالمدينة ممّا أدّى إلى إغلاق العديد من البارات ولعل جامع الفتح الكائن بشارع الحريّة أبرز مثال على هذه الحالة حيث أدى تشييده إلى إغلاق أغلب الحانات المنتشرة بالشارع تنفيذا لهذه الحيلة القانونية.
أبدا لم يكن اختيار موقع إقامة الجامع اعتباطيا أو ذا طابع ديني بحت حيث طغت عليه الخلفيات السياسية أيضا، فإغلاق تلك الحانات أيضا سعت إليه السلطة حينها وهي التي تحولت إلى مكان لتجمع طلبة اليسار في الثمانينات بل تحولت بعضها إلى ما يشبه المقرات الحزبية توضع فيها خطط التحركات وتكتب فيها النشريات فقد تحولت الحانات إلى أماكن تشكل الهويات السياسية والاجتماعية ولعل أبرزها حانة “الشيلنغ “بشارع الحرية والتي أغلقت بموجب هذا القانون الساري مفعوله إلى اليوم.
تراجع عدد الحانات لصعوبة التراخيص التي تمنحها وزارة الداخلية مقابل تزايد عدد مستهلكي الخمور بعد الثورة التونسية ( 2011 ) وبالعودة إلى آخر الإحصائيات لمنظمة الصحة العالمية سنة 2015 نجد أنّ تونس تتصدر المرتبة الأولى عربيا والخامسة عالميا في استهلاك الكحول ب 26،2 لتر لكلّ مواطن الذي يبقى غير دقيق باعتبار السياحة الكحولية التي تستقطب مواطني الجارة ليبيا حيث يمنع بيع الخمور هذا إذا علمنا أنّ إحصائيات غير رسمية تتحدث عن وجود مليون مواطن ليبي بتونس دون أن ننسى السياح الجزائريين والأجانب.
تعود صناعة الخمور في تونس إلى عصور ساحقة، أي منذ دخول الفنيقيين إلى قرطاج وقد كتب العالم والقائد القرطاجني “ماغون” ( القرن الثالث ق م – القرن الثاني ق م ) حول هذه الصناعة في قرطاج من زراعة الكروم إلى استخراج النبيذ وذلك ضمن موسوعته الفلاحية وقد أطلق اسمه على نوع من النبيذ التونسي الذي يحظى بالرواج إلى اليوم كما كانت تونس تسمّى مطمور روما نسبة إلى ثرواتها الفلاحية التي زودت بها الامبراطورية الأقوى في ذلك الوقت.
الماغون – النبيذ الأكثر رواجا في تونس
بعد دخول الإسلام إلى تونس في القرن السابع ميلادي تمّ الاستغناء عن إنتاج الخمر والنبيذ رسميا ولم يصنعا إلا سرّا، ليتم استئناف ذلك جهرا مع دخول المستعمر الفرنسي وقد عمل بعض الفرنسيين الذين استقروا بتونس على زراعة الكروم وصناعة الخمر.
اجتث التونسيون الاستعمار الفرنسي من جذوره كما اجتثوا الكروم من الأراضي في أوّل لحظات الاستقلال ليعودوا بعد ذلك إلى إنتاج الخمر و النبيذ وقد ظهرت في الثمانينات من القرن الماضي مؤسسات مختصة في تنظيم هذه الصناعة.
عرف يهود تونس بصناعة مشروب ” البوخا ” وهو مشروب روحي تقليدي مصنوع من ثمار التين ومازال يباع إلى اليوم في الفضاءات التجارية ويحظى بالرواج ويشبهه التونسيون بعرق بلاد الشام أو بفودكا روسيا كما أنّه يصدّر إلى عدّة دول من العالم ويردد كثيرون أنّه ذو رائحة مميزة فهي ذات الايحاءات الجنسية حيث تشبه هذه الرائحة الروائح المنبعثة من الجهاز التناسلي من الأنثى أثناء الجماع.
https://www.dailymotion.com/video/x6dtph7
كاس البوخا – أغنية شعبية جزائرية الأصل عن مشروب البوخا
وعلى عكس المشرق العربي فإن “عصير اللاقمي ” هو مشروب الفقراء بتونس إذ ينتشر ببعض مدن الجنوب التونسي و هو الذي يستخرج من النخيل وذلك بعد قطع النخلة على مستوى الرأس و استخراج السائل منها و تتعدد التسميات التي يحملها هذا المشروب باختلاف المناطق من اللاقمي إلى القيشم إلى الكلاو و كذلك تتعد الطرق التي بها يتحول السائل الحلو الطبيعي إلى مشروب مسكر باختلاف المناطق أيضا و رغم بعض المضار الصحية الجانبية التي قد يسببها لطبيعة هذه الإضافات و تنوعها فإن الفقراء يجدون فيه ضالتهم أمام ارتفاع أسعار الكحول مقارنة بثمنه.
شعر شعبي تونسي عن اللاقمي
ركز المستعمر الفرنسي مجموعة من معاصر العنب بمدينة “قرمبالية” لتكون الصناعة الأولى والرافد الاقتصادي الأول للمدينة ويشتغل في هذه الصناعة عشرات الآلاف بين صناعيين ومزارعين وعمال، وتشتهر أنواع كثيرة من النبيذ التونسي خارج أراضيه ومن أشهر الأنواع “ماغون ” وهو نبيذ أحمر وأبيض و “سان أوغسطين” وغيرها.
مع صناعة الخمر عقدت مجالس خاصة لشربه، مجالس تعود إلى قرون عديدة، في هذا الإطار كتب إبراهيم بن القاسم الرقيق القيرواني والمعروف بالنديم في القرن الخامس هجري كتابه ” قطب السرور في أوصاف الأنبذة والخمور والذي جمع أمثال الحكماء وطرائف الشعراء وعلم الفلاسفة في الخمرة مسجلا بذلك بعض فصول الحياة الاجتماعية للقرون الأربعة الأولى للإسلام ويعتبر هذا الكتاب من الكتب النادرة التي وثق فيها مؤرخ عربي وقيرواني أحوال الخمرة وشاربيها.
يحدثنا الدكتور معز الوهايبي أستاذ جامعي في نظريات الفنّ وهو أصيل مدينة القيروان وأحد الوجوه البارزة في المشهد الثقافي عن الخمر والمثقفين فيقول : أنت توفّرين لي فرصة للحديث عمّا كنتُ أنتوي منذ مدّة الكتابة عنه؛ أعني علاقة المثقّف التّونسي بالخمرة والخمّارات.. لكن أكتفي في هذه المناسبة بالحديث ذاتيّا وحميميّا؛ فأنا أنتسب إلى مدينة علاقتها بالخمرة ملتبسة.. في طفولتي كنتُ أشاهد في القيروان خمّارات كثيرة ما زلت أتذكّر مواقعها وأسماءها إلى الآن. كان لبعضها “ترّاس” يطلّ على الشّارع ولم يكن ذلك يثير حفيظة أحد،سأدرك واحدا منها وأنا تلميذ في البكالوريا، في بداية الثمانينات، وسأرتاده مع بعض الأصدقاء ونحن نتعلّم التباهي بالشباب والحرّية، حانة “الرّنغا” بالمدينة العتيقة.. وعندما سأنتقل بعد ذلك إلى العاصمة سأرتاد البارات التي يجلس فيها الكتّاب والأدباء فقد بدأت أنشر في تلك الفترة بعض القصائد في جريدة الصّباح.. سأجلس في Tunis Club حذو الحاجز البلّوريّ الذي يطلّ على التّقاطع بين شارع الحبيب بورقيبة وشارع باريس؛ كنتُ أحبّ وما زلتُ أن أحتسي الخمرة علانية؛ كنتُ .. وسأواظب على هذا في بعض بارات سوسة التي تتوفّر على وجهات زجاجيّة تطلّ على الشارع.. ولكنّي كنتُ ارتاد أيضا حانة Chez les Nègres، بشارع باريس، حيث كنت أتعرّف بعدُ إلى عبد اللّه مالك القاسمي، والصغيّر أولاد أحمد، ومنصف المزغنّي (وهم من أشهر شعراء تونس) ، وغيرهم.. سأستمع إلى نقاشاتهم الصّاخبة عن الشّعر وسأعاين نفورهم من قراءة الأدب العالمي، ما عدا اطّلاعهم المحتشم على بعض قصائد بابلو نيرودا وناظم حكمت؛ واستخفافهم بالشّعر العربي القديم.. بعد سنوات من ذلك سيتجشّمون عناء قراءة تلك النّصوص.. ولذلك سأغتنم فرصة مجيء محمّد الغزي ومنصف الوهايبي ( من شعراء تونس وأصيلي مدينة القيروان) إلى العاصمة من القيروان، مرّة في الأسبوع أو الأسبوعين، لأجلس إليهما في الأنترناسيونال مطلاّ ببذخه على شارع الحبيب بورقيبة حيث الحديث عن أدب آخر ونصوص أخرى لا حضور لها حتّى في L’univers القريب حيث لسحب التّبغ وحباب البيرة نكهات يساريّة متنوّعة.. غير أنّي كنت أحبّ الحديث عن الأدب والفنّ.
صالح الخميسي – الدبوسة
لقد انقسمت الحانات في تونس بين حانات خلفية وراء شارع الحبيب بورقيبة والتي تفتح أبوابها على محطات الميترو والقطار ترتادها الفئات المهمشة ولذلك لثمنها الزهيد مقارنة بحانات العاصمة وقد سبق وأن أنشأ النظام السابق حانة للكتاب وأطلق على اسمها ” دار الكاتب ” وقد أغلقت أبوابها قبيل الثورة بسنوات فيما مازالت حانة الصحفيين تشتغل إلى اليوم ويرتادها الصحفيون والكتاب واسمها ” دار الصحفي”.
رغم ارتفاع منسوب التيارات المحافظة في تونس سياسيا واجتماعيا فإن الحانات إلى اليوم تحافظ على خصوصيتها كفضاء للتبادل الثقافي والسياسي يتناقش روادها الشأن العام والخاص في شبه تأكيد على التعدد و الثراء الذي يبنى داخل الاختلاف في المجتمع الواحد رغم تقلص هذا الهامش لفائدة المحافظين على حساب المولعين بشرب الخمر بإخلاء الأماكن العامة و المفتوحة منهم و بتحديد أيام تمكينهم من ذلك.
خولة الفرشيشي
خليل قطاطة