منذ سنوات خلت تواتر خبر العمل على مشروع علمي غريب أطلقت عليه حينها تسمية مشروع ” الأذن الكبيرة ” ليكون ذلك طبعا خارج ” الرقعة ” الجغرافية العربية. المشروع يحاكي في فكرته ” الخيال العلمي ” الذي يطالعنا في السينما ونقرأه في الأدب مع الكتاب الذين يحذقون هذا النوع من الكتابة وتقوم فكرته أساسا على نفي صفة التحلل عن الأصوات الصادرة عن البشر وغيرهم والقول ببقائها معلقة وتعمل هذه الأذن الكبيرة الصناعية على استعادة هذه الأصوات وفرزها وتفكيك الرسائل التي تحملها الأمر الذي قد يشكل ثورة مؤجلة بأثر رجعي في انتظار خروج هذا المشروع الى النور.

بعيدا عن ” الروابط ” المنطقية دائما فإن الحديث عن مشروع ” الأذن الكبيرة ” في سياق الكتابة عن عرض موسيقي فيه من العبث الشيء الكثير غير أن مجرد التفكير في مشروع مماثل قد يكون سببا مباشرا للتساؤل حول ذلك الكم من المعاناة الذي سيلقاه أصحاب الفكرة المذكورة في تنقية الأصوات التي ستبقى معلقة في ” تونس ” والمشوبة باللغط والتقول اللاإرادي والجلسات البرلمانية والصفقات والقسم بأغلظ الأيمان بجدية الالحاد و بالدعوة إلى الجلوس وقوفا و بتلك الكلمات التي تنقلب معانيها فجأة بغياب المخاطب أو طرف في محادثة بين اثنين بمجرد ” خطفه ” لأول منعطف.

بحثا عن الرابط دائما داخل هذا الصوف اللفظي المتشابك والمعقد لاعتبارات تهم كون هذه الرقعة من الأرض كانت دائما مستقرا مضيافا لقدماء اللاعبين من مستعمرين ومستكرشين ومستشرقين ومستعربين ومستغربين ومستتركين ولعل الرابط المتوفر وغير المنطقي دائما هو أن هذه الأذن غير الحقيقة سيكون لها تمييز وجود صوت ” يسرى محنوش ” داخل الفوضى التي ذكرنا.

رغم عناد الأحوال الجوية وخيانة التجهيزات الصوتية

الحفل الذي أقيم في سياق الدورة الأربعين من مهرجان صفاقس الدولي لم يشهد انطلاقة طبيعية لأمرين منسجمين تمام الانسجام حيث كان موعده ( 3 أوت ) متزامنا مع الانقلاب الفجائي للأحوال الجوية في كامل الجمهورية التونسية تقريبا الأمر  الذي يشكل و بالضرورة تهديدا صريحا لإقامة حفل  أعد له كي يكون في أجواء صيفية بعيدا عن الأمطار و الرياح أما المعطى الثاني فتعلق بانتظار حلول ركب الرسميين و بعض الشخصيات ذات ” الوزن ” السياسي أو النقابي الأمر الذي عدل موعد الانطلاق من التاسعة الى الحادية عشرة ليلا وسط تبرم واضح من الجمهور الذي توافد بأعداد محترمة للقاء يسرى محنوش التي خبرها من خلال برامج المواهب وصولا الى تدرجها المدروس من الحضور كضيفة شرف في حفلات كبرى وصولا الى قدرتها على الصعود بمفردها ممهدة الطريق لنفسها كرقم صعب داخل ساحة فنية تونسية غريبة المزاج باستصغار كبارها و التكبر على صغارها من القادمين من مدارس مختلفة من الملتزم السياسي إلى الطربي إلى التجارب الفردية ذات العمق الموسيقي المعتمد على البحث و التطوير وآخرها تجربة عطور لمحمد علي كمون الذي سيختتم مهرجان قرطاج الدولي هذا العام.

جمهور من مختلف الأعمار لم تثنه الأحوال الجوية الصعبة عن متابعة الحفل

جمهور من مختلف الأعمار لم تثنه الأحوال الجوية الصعبة عن متابعة الحفل

يسرى محنوش التي سجلت حضورها منذ التاسعة ليلا بكواليس المسرح الصيفي بسيدي منصور لم تغفل عن الاعتذار على هذا التأخير الاضطراري قبل أن تنخرط في أداء ” الكلثوميات ” بطريقة غفرت هذا التأخير بأداء متمكن معتمدة على خامة صوتية متميزة رغم سقوطها الذي لا يبرره شيء في فخ الترحيب بالرسميين من خلال ذكر أسماءهم وصفاتهم الأمر يعد في النهاية غير مقبول لاعتبارات تهم سلطة الفن التي تعلو في هذا المقام وفي كل مقام تقريبا كل سلطة سياسية وتحيل بالضرورة على أساليب تجاوزناها في تونس منذ زمن.

سنة ستة وألفين وفي واحدة من أماسيه الأشهر في تونس والتي أقيمت بالأكربوليوم بقرطاج اختار الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش أن يبدأ بالتحية أولا حين كانت الصفوف الامامية تعج بالسفراء الأجانب من العرب وبالوزراء والرسميين التونسيين فتوجه بالتحية إلى سعادة السفير (حينها كان الحاضرون من السفراء يعدلون ياقاتهم ويمسحون النجوم التي تزين بلاتهم الرسمية تمهيدا لسماع الترحيب بهم) فأكمل درويش الجملة وقال.. مرسال خليفة ومر مباشرة إلى الشعر.

رغم تحسن الأحوال الجوية و اعتدال درجة حرارة الجمهور الذي خلصته يسرى محنوش من آثار برودة الانتظار فإن خيانة التجهيزات الصوتية تواصلت على امتداد الساعتين و ربع الساعة مدة الحفل ليؤثر و بشكل واضح على أداء يسرى محنوش و على أداء الفرقة التي تصاحبها لتكون هذه النقطة هي النقطة السوداء الأكثر وضوحا في حفل رافقته صعوبات لكن الإمكانيات الأدائية و الصوتية ليسرى محنوش بالإضافة إلى حضورها الركحي والتفاعلي مع الجمهور الحاضر نجحا في قلب الموازين لصالحها و لصالح مسيرتها بتسجيل نقطة إضافية من خلال الصعود بمفردها على مسرح سيدي منصور سنتان بعد حضورها بشكل شرفي مع الفنان كاظم في ذات المهرجان و على نفس الركح.

جسر المسيب.. الامتداد الموسيقي لشكري بلعيد

غريبة هي المصادفة التي جمعت الفنانة يسرى محنوش بالشهيد شكري بلعيد خلال برنامج تلفزي على قناة الحوار التونسي حينها اكتشف عموم الجمهور المنصرف عن السياسة وجها آخر للسياسي غير المتجهم و غير المتشنج من خلال السياسي المقبل على الفن و على الحياة و الغناء و الكل يذكر تلك اللمعة الخفية التي ظهرت في عيني بلعيد عن حديثه عن العراق و عن ميحانة وعن الفن العراقي و عن جسر المسيب الشهير و ذكريات الشباب عليه حينها في العراق الجريح اليوم

شكري الذي استشهد بعدها بفترة قصيرة كان سببا في تحول أغنية ميحانة الى أغنية حظ يسرى محنوش خصوصا بعد إعادة تقديمها إياها مرات أخرى في لمسة وفاء لروحه و لعل صورة الحفل الذي أقيم في صفاقس هي صورة الشهيد شكري بلعيد التي وشحت خلفية الركح لدى أداء ميحانة.

شعب تنقصه الفرحة.. شعب محاصر

ليس في الأمر مبالغة حين نتحدث عن شعب محاصر بالكامل وعن شعب لم يفرح منذ سنوات طويلة والأنكى في كل هذا أننا صرنا نتحدث اليوم وبشكل فعلي عن جيل جديد لم يعاصر فرحا حقيقيا أو شعبيا في الشارع يطلق فيه العنان للفرح دون التفكير في ضغط اليومي أو التزاماته الأمر الذي كانت توفره كرة القدم مثلا والتي صارت بدورها اليوم في حاجة الى أن يرفع ” الطبيب ” عنها يديه.

الحديث عن الحصار ينطلق من سواد التفاصيل من غياب للمياه وغياب للطاقة بأنواعها وغياب للدواء وحضور للتهديدات من الداخل ومن الخارج بالإضافة الى الهزات السياسية والتصريحات المنفلتة والوعود التي لا تنجز الأمر الذي يعد خانقا لشعب عاش على امتداد سنوات ثمان اغتيالين سياسيين وعددا من العمليات الإرهابية وتدهورا واضحا في المقدرة الشرائية وتراجعا معيشيا طال كل الطبقات حتى تلك التي كانت تعد والى وقت قريب من الطبقات المرفهة.

وسط هذا الكم من الأزمات من الطبيعي أن يتحول الحديث عن الثقافي أو الاحتفالي شكلا من أشكال الرفاه بوضعه في خانة ما يمكن أو حتى ما يجب التخلي عنه لفائدة نفقات أخرى أكثر الحاحا من حفل أو عرض فني ولئن كان في هذا الكلام جانب من الوجاهة فإن ما يجب التنبيه لخطورته أن مثل هذه المساحات قد تكون هي المتنفس الوحيد لهذا الشعب وطريقته الوحيدة للتنفيس عما بداخله بالتعبير عن فرح ولو كان ذلك الى حين.

خليل قطاطة 

صور :

حمادي قطاطة