قد لا يكون فيلم ” النوم في العسل ” للمخرج المصري ” شريف عرفة ” مصنفا ضمن الأعمال السينمائية الأكثر تأثيرا في مسار السينما المصرية أو العربية و ذلك بالعودة الى نتائج الاستفتاءات المنجزة في هذا المجال سواء كان ذلك في تقدير الجمهور أو النقاد المختصين لكن ذكر هذا العمل الذي خرج للجمهور سنة 1996 كان و لا يزال مرتبطا بعدد من المشاهد المفاتيح ” Master-Scene ” و التي اتسمت بنوع من التفوق على مستوى الكتابة أو على مستوى الأداء بالعودة دائما الى طبيعة القضية التي أثارها الفيلم بشيوع حالة من الخمول و العجز الجنسي أصابت فجأة المجتمع المصري لتغيب الرغبة تاركة مكانها للفوضى و لتنطلق بذلك رحلة البحث عن الحلول في طرق و مسالك مختلفة.

دور وزير الصحة في “ النوم في العسل ” كان من أداء الفنان الكبير ” نظيم شعراوي ” و رغم أن مروره كان برقيا و خاطفا إلا أن ذلك المشهد الذي كان يدعو فيه مواطنيه الى الوقوف أمام المرآة و إقناع أنفسهم أنهم بخير و أنهم ” حديد ” و ” بمب ” سيبقى و بلا شك واحدا من المشاهد الهامة و الفارقة خصوصا مع إقتناع المواطنين بتجربة ذلك مع إنسداد الأفق و تقلص الأمل في الشفاء من العجز و مع التصديق البديهي لكل خطاب رسمي ليكون هذا المشهد السريالي مفتاحا حقيقيا و مدخلا عبثيا لظاهرة أخرى نبتت و بشكل ” شيطاني ” ولكن بعد أكثر مرور أكثر من عشرين سنة على تصوير هذا المشهد و الفيلم عموما فيما أصبح يعرف بالتنمية البشرية حيث يكفي أن يقتنع الهدف بالوقوف أمام المرآة لينطلق الفيلم.

https://youtu.be/j9UXfgT2eHo

التنمية البشرية.. مسرح مشوه  

بعيدا عن بحث لا طائل من ورائه عن النشأة والأصل وتجاوزا لإعادة ترتيب ما يسقط من موقع الويكيبيديا حول موضوع ” التنمية البشرية ” فإن الحقيقة الأولى التي يجب الاصداح بها هي أننا بصدد الحديث عن ” ظاهرة ” حقيقية ومكتسحة في تونس اليوم.  في غياب متابعة رسمية وحقيقية في شكل أرقام وإحصائيات فإن عدد الندوات والدورات التكوينية التي تقام تباعا في تونس يبقى غامضا غير أن هذا النقص في المعلومة يمكن تجاوزه من خلال متابعة حركة هذه الأنشطة على موقع فايس بوك بشكل رئيس سواء كان ذلك في شكل أحداث قادمة ” Event “أو مواكبات لندوات ودورات أقيمت أو حتى في بمتابعة الصفحات والمجموعات المغلقة أو المتاحة للعموم بكل ما تحتويه من منشورات أو مواد مصورة.

الحقيقة الثانية في سياق الحديث عن “التنمية البشرية ” دائما هي أن إخفاء الحدث الأصلي والاعتماد المجرد على مكوناته يحيل وبشكل مباشر على مكونات عرض مسرحي وإن كان ذلك في مستواه الصفر رغم أن الالتقاء الغريب ربما بين ” التنمية البشرية ” و ” المسرح ” يكون في مجال أخصب حين نتجه بالمسرح مباشرة إلى ما يعرف بعرض الممثل الواحد رجلا كان أو امرأة one woman/man show    إذا ما اعتبرنا أن وجود ” المدرب ” / الممثل و الجمهور / الجمهور بالإضافة الى السيناريو / موضوع الدورة و بعض المؤثرات الصوتية و الضوئية عناصرا كافية لقيام هذا التقارب  و لعل الهدف هنا ليس الحط من قيمة المسرح بتصويره في موضع الحائط القصير و لكنه بحث مستمر و متواصل عن هوية مستقرة للتنمية البشرية وسط اشتراكها مع خصائص أكثر من مجال يستأثر المسرح بجلها.

[siteorigin_widget class=”SiteOrigin_Widgets_Testimonials_Widget”][/siteorigin_widget]

 

الجانب الفرجوي ” المصطنع “و الذي يميز دورات التنمية البشرية لا يمكن فصله بأي حال عن المضمون الذي يتم التسويق له في جل هذه الدورات و الرامي إفتراضا إلى مساعدة المشارك أو المتدرب على مواجهة الصعوبات و دفعه للحفر في داخله و التفوق على نفسه و تجديد طاقته أو الحصول عليها إلى غير ذلك من المصطلحات التي يتم تقديمها بشكل ممنهج و مدروس بالاعتماد ” مسرحيا ” دائما على هدم الجدار الرابع على طريقة ” بريشت ” و تشريك الجمهور باللعب دائما على استثمار شعور بالنقص يقف وراء مشاركة صاحبه في دورات مماثلة.

التنمية البشرية شقيقة الطبخ باستعمال وعاء الضغط 

تبقى الحاجة الى الخضوع الى دورات مثل تلك التي تأمنها ” التنمية البشرية ” سليلة الشعور بنقص أو فراغ متراكمين يرافقان في الغالب تلك المراحل التعليمية التي أفرغت من جانبها الثقافي و الابداعي انتصارا للعلمي دون التمكن من بلوغه أو تجاوز الجانب التلقيني فيه على امتداد عقود من التمدرس التونسي علاوة على ذلك فإن الفعل الثقافي المنكمش في تونس يبقى مسؤولا بدوره عن ذلك و هو العاجز عن الخروج من مثال ” الشاذلي القليبي ” أو رؤية دولة الاستقلال للثقافة دون القدرة أيضا على ايجاد بديل لهذا المثال المتكلس راهنا مع اندثار المسرح الهاوي بشكل شبه كلي و مع تقلص قاعات السينما بشكل مفزع و تراجع كلي لدور الكتاب و انصراف الدولة الى تشجيع الاحتفاليات الكبرى و التغاضي عن فعل التأسيس الفكرة التي يدعمها اليوم وجود مدينة للثقافة في مركز البلاد.

بناء الشخصية يعتمد و بشكل رئيسي على عملية المراكمة و التثقيف الذاتي و التحصيل القائم على السعي الى المعلومة و على التقاطع الجماعي مع مجموعة من الأفكار التي من شأنها توجيه صاحبها و تحديد مساره من خلال قدرته على الفرز و التمييز و اتخاذ القرار لكن الجزر الحاصل في كل من التعليم و الثقافة بشكل مخصوص جعل من كل العمليات المذكورة مشوهة و منقوصة و جعل من أصحابها هدفا سهلا أمام قناصي التطرف من جهة و قناصي اصطياد البسطاء و المحدودين رغم أن قناصي الجهتين يعودون الى نفس الثكنة و نفس البيت ليلا.

كتب مثل  تعلم الألمانية و الانجليزية في أسبوع هي تقريبا الكتب الأعلى مبيعا في تاريخ مبيعات الكتب عربيا رغم أننا لم نر يوما من تمكن من القيام بذلك في مثل ذلك الزمن الوجيز و لعل هذه الكتب تبقى المثال الأقرب لما يعرف اليوم بالتنمية البشرية حيث يبقى العقل و صاحبه خاملين هانئين الى حين توفر الحاجة فجآة لينطلق البحث المحموم عن التدارك المكثف و الحاجة هنا لا يمكن تصنيفها دائما ضمن ” المادي ” لكن قدرة صاحب الدورة على زرع وهم ضرورتها في ذهن ” الحريف ” يبقى أمرا فارقا و حاسما بالاتكاء ذائما على تكوين صاحبها و مناعته المعرضين دون تحصين لكل التيارات الهوائية من جميع الجهات.

لا عجب أن تلامس الدورات التكوينية التي تقام بشكل متواصل و مستمر في تونس بعض الجوانب التي يكون التحصيل فيها ذاتيا و خاضعا للتجربة القابلة للخطأ و الصواب معا كأن تقام دورات في تربية الأبناء و التقرب منهم و في ادارة الحياة الزوجية و في الحب مثلا بالاضافة الدورات الخاصة بمضاعفة القدرة على التركيز و على استعمال أفضل للذاكرة و غيرها من عشرات الدورات و المواضيع التي يحاول الذاهبون اليها أن يحصلوا على أكبر قدر من الاستفادة في زمن قياسي  يشبه الى حد بعيد عملية الطبخ باستعمال أوعية الضغط التي تعطي طعاما و لكنها تفقده الرائحة كما أن هذا الارتفاع المحموم في الطلب كان له بليغ الأثر السلبي على العرض الذي و إن كان يحمل بذور العشوائية و الأخذ من شيء بطرف دون ترتيب منذ البداية فإنه أصبح يعرف اليوم ظهور العشوائيين الجدد فيه و الذين يقفون على يمين يمين هذا المجال تحت مسميات ” المدرب ” و ” الكوتش .

[siteorigin_widget class=”SiteOrigin_Widgets_Testimonials_Widget”][/siteorigin_widget]

فوضى المدربين و ممر آمن لدعاة من الجيل الرابع 

محاولة ترتيب الأسماء الأكثر حضورا و تأثيرا في مجال التنمية البشرية منذ ظهورها بشكلها الحالي هي حتما عملية أكثر من شاقة لاعتبارات تهم الفوضى في الكم خصوصا لكن المصري ” ابراهيم الفقي ” يمكن أن يكون في قمة الترتيب الهرمي لذلك باعتبار الصيت الذي كان يتمتع به من خلال مبيعات كتبه و المواكبة لحفلاته المذاعة بشكل تلفزي بالاضافة الى الدورات التي كان يقيمها في عدد من الولايات التونسية قبل أن يلقى حتفه في حريق شب بمنزله سنة 2012 بالقاهرة. 

يظهر المقطع الموالي حجم ” التلاص ” و التطابق المريب بين خطابين الأول لعالم تنمية أمريكي و الثاني  ” ابراهيم الفقي ” كان أمينا في النقل الحرفي متمكنا من الترجمة مع نسب ما جاء على لسان الطرف الأول لنفسه و الأمر يشي ربما بأخلاق رب البيت فكيف سيكون الأمر بالنسبة لبقية أهله. 

[embedyt] https://www.youtube.com/watch?v=IrSWRAU6_kU[/embedyt]

” مساعد ابراهيم الفقي ” ” تلميذ ابراهيم الفقي ” ” من دراويش ابراهيم الفقي ” هي ألقاب خلعها أصحابها من ” المدربين ” على أنفسهم على امتداد السنوات الأخيرة استثمارا لهذا الاسم الذي بقيت أسهمه مرتفعة الى اليوم رغم غياب صاحبه لندخل في عملية تناسل سريع و غريب للمدربين دون الحصول على معايير واضحة نستطيع من خلالها التمييز بين من يستحق لقبا مماثلا و بين من لا يستحقه خصوصا و أن حجم الاقبال المتزايد على مثل هذه الدورات التي تطورت اليوم الى أكاديميات و مراكز دولية قد يحجب مستوى المدربين لكن المحير فعلا هو أن ” التنمية البشرية ” قد تحولت فعلا و خلال السنوات القليلة الماضية الى طريقة ناعمة لتحصيل الأموال مع ارتفاع معاليم التسجيل فيها و خصوصا مع غياب واضح لفهم قانوني أو إطاري لهذا المجال لكن الأخطر ربما هو أن ” التنمية البشرية ” تحولت الى مدخل لدعاة الجيل الرابع. 

350 و 400 دينار ؟؟

350 و 400 دينار ؟؟

المفهوم المطاطي الذي يميز ” التنمية البشرية ” هو سبب و نتيجة في آن لامكانية تداخل المجالات فيها و تشعبها خصوصا مع القدرة على ” السفسطة ” و مع التمكن من السيطرة على الطرف المقابل باستعمال نقاط ضعفه و غياب المناعة الفكرية و الثقافية لديه و يشمل هذا الأمر اليوم الجانب الديني من ناحيتي الاعتقاد و الممارسة و الذي يغادر تلك المنطقة الخاصة بين المعتقد و ربه ليصبح فجآة منخرطا في منطقة اعتقادية مشتركة يمكن تحريكها بالمد و الجزر وفق توجيهات ” المدرب/الشيخ/الواعظ/الكوتش ” و التي تخضع طبعا للتأثيرات و التوجيهات السياسيةبشكل خاص.

بالعودة دائما إلى التأسيس و ضروفه باعتبار ذلك طريقا ممكنا لفهم الواقع المعيش داخل حلقة هذه الظاهرة دائما و التصاقها بالديني فإن الداعية الاسلامي ” أحمد ديدات ” يعد من الآباء المؤسسين للمناظرات و المحاضرات التلفزيونية كما يمكن اعتبار الكتاب/الدستور ” معالم في الطريق ” لسيد قطب ” مرجعا فارقا في ” التنمية البشرية الاسلامية ” من زوايا التوجيه و الاستقطاب و التأثير وصولا إلى ظهور البرامج التلفزيونية الدينية  الى ظهور شبكات التواصل الاجتماعي و استثمار الميديا الجديدة في ذلك.

في تونس اليوم يمكن التسليم فعلا بانقضاء موجة توافد الدعاة الاسلاميين المثيرين للجدل و الذين أحدث قدومهم في السنوات الماضية جدلا و توترا في الشارع التونسي خصوصا و أن الطرف السياسي الاسلامي ” حزب النهضة ” كان في مقدمة مستقبليهم في المطارات و المساجد ممثلا في قيادات الصف الأول فيه و ان كان ذلك ظاهريا تحت مسميات جمعياتية لكن انحسار هذه الموجة يبدو مدروسا بعد أن تغيرت التسميات و ثبت المبدأ فالدروس و الحلقات و المحاضرات التي تقام اليوم في أغلب الجوامع التونسية صارت تلبس تسمية دوارات ” التنمية البشرية ” و الدعاة / المدربون تغيرت تسمياتهم و غابت الفرقعات مع قدومهم من الداخل و الخارج.

 

خليل قطاطة 

 

تونس 2018 .. سوسن كانون مدربة تنمية بشرية

تونس 2018 .. سوسن كانون مدربة تنمية بشرية