ذكر البط الدميم و الذي لفظته العائلة البيضاء بمن فيها هو في الأصل ابن حقيقي لها غير أن الطبيعة و بمحض الصدفة لم تسعفه في موضوع البقاء منضبطا داخل جيناته فأردته مختلفا بحجم غير ذلك المدرج في كراس الشروط ولون مغاير وطريقة أخرى في اصدار الصوت لذلك كان الجميع يحاول اخفاءه عن العيون عملا بقوانين الانضباط القطيعي الصارمة.
تونس ” البطة الأم ” وقبيل الانطلاق الى الغدير في تقليد يومي تقوم بإحصاء أبناءها وتفقدهم واحدا واحدا بمنتهى العناية لتخرج من الصف كل الذين لا يشبهونها أو الذين تؤثر أن لا يظهروا معها بشكل علني الأمر الذي ينسحب تماما اليوم على “فناني الراب ” فيها أو على السواد الأعظم فيهم خصوصا من غير الضليعين في علوم الانضباط والباحثين عن الاختلاف والقادمين من محرقة الهامش نحو فضاءات يفترض أن تكون أقل قسوة وأكثر قدرة على تبليغ أصواتهم وتحقيق آمالهم.
موسيقى ما تحت الأرض.. موسيقى الكلمات الكبيرة
طفرة عجيبة هي تلك التي شهدتها موسيقى الراب ابان انتفاضة 2010- 2011 بتونس وهي التي كانت تتطلع الى مجرد الظهور في المشهد التونسي بكثير من الاستحياء قبل هذا التاريخ ولعل الأمر يفهم من زاويتي التناقض بين الرقابة والأذن الكبيرة للدولة التي كانت تلتقط كل شيء قبل 2011 وبين طبيعة هذه الموسيقى والشكل المتمرد الذي جبلت عليه في مهدها الأول وفي مراحل تطورها الأمر الذي فكت عقدته التحولات العميقة المتعلقة خصوصا بحرية التعبير في تونس دائما.
عربيا و على مستوى سلم ترتيب ” الشتّامين ” يقف التونسيون في آخر السلم و أعلاه متفوقين تمام التفوق في استعمال الكلمات الكبيرة التي تشكل اليوم و بدورها وجدان ” موسيقى الراب ” في تونس و عصبها الرئيسي الأمر الذي لا يمكن تفكيكه و فهمه من زوايا ” العيب ” و ” الكلام البذيء ” ” و ” العبارات النابية ” لتحوله فجأة و خلال السنوات القليلة الماضية الى ” ظاهرة ” حقيقية و جدية يمكن من خلالها ربما تشخيص تحول الشباب التونسي و خصوصا أولائك المتواجدين داخل دائرة ” موسيقى الراب ” انتاجا أو استماعا ليتمركزوا على يسار المجتمع و الدين و الأخلاق و على يسار كل شيء.
تفكيك ظاهرة موسيقى الراب كموجة لغوية احتجاجية وعامة في تونس يمر حتما عبر متابعة وجرد مختلف الشرائح التي أمكن لهذا النوع من الموسيقى بلوغها والتغلغل داخلها والحديث يمر حتما عبر قياس درجة التأثير العالية التي طالت الجميع تقريبا سواء داخل الفئات العمرية المختلفة أو حتى داخل مختلف التلوينات الاجتماعية لبلغ ذلك السياسيين وحتى بعض رجال الدين.
حمة غراب أو الكاسترو واحد من أهم أسماء موسيقى القاع و الهامش في موسيقى الراب .. كلمات كبيرة.. تمرد على الأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية .. اللغة في حجم المعاناة
الراية التونسية تختفي بعد الساعة الثامنة ليلا
الحديث عن ” موسيقى الراب ” لا يمكن وبأي شكل أن يكون مفصولا عن الحديث حول الهامش وعن الأحياء والمناطق الشعبية التي يتدرج فيها وجود الدولة من الضعف الى الغياب الأمر الذي يمكن الاستماع اليه واضحا داخل المقاطع الموسيقية التي يشخص فيها أصحابها وبكثير من الغضب ومن الكلمات الكبيرة الوضع المزري وتردي العلاقات الاجتماعية وارتفاع منسوب الجريمة.
غياب الدولة وانعدام الشعور بالانتماء في غياب الفرص المتكافئة وبوجود أحياء ومناطق سكانية هائلة معزولة عن برامج التنمية و عن الاهتمام غير الانتخابي هو دافع رئيسي ربما لوجود ” موسيقى الراب ” كشكل من الأشكال التعبيرية الاحتجاجية المعبرة عن الرفض «.
بشكل فعلي و دون المبالغة في خلع الألقاب تحولت ” موسيقي الراب ” في تونس فجأة الى ضمير حي متكلم و ناطق باسم الشباب و مشاغله التي تختلف طبيعيا باختلاف الأهمية التي يوليها المركز لهوامشه المرتبة تفاضليا من ذلك العلاقة المتوترة دائما مع السلطة ممثلة في جهازها الأمني و تعاطي الدولة المتشدد مع نظام عقاب تعاطي المخدرات أو ما يعرف بقضية القانون عدد 52 الشهير بالإضافة الى قضايا الهجرة غير النظامية.
DJ COSTA ” أغنية ” حقرونا ” موسيقى الراب تحولت الى ضمير متكلم و مواكب حقيقي للمستجدات في تونس .. هذه الأغنية على سبيل المثال تعود على حادثة وفاة مشجع كرة قدم غرقا بعد أجبره أعوان أمن على القفز داخل واد أثناء مطاردة بعد مبارة كرة قدم ..
الوعي بأهمية هذا النوع من الموسيقى لم يكن ليمر هكذا دون استثماره أو حتى محاولة استثماره سياسيا خصوصا و أن القائمين على الحملات الانتخابية في سنة 2014 بشكل مخصوص كانوا على وعي كبير بقدرة الحفلات التي يقيمها فنانو الراب على استقطاب أو استمالة فئة من الشباب تواجه الانتخابات بالعزوف و قد كان و على سبيل المثال موزعا بين مواقف ثلاثة تبين و بشكل جلي حضور هذه الموسيقى اليوم في تونس حيث اختار فنان الراب المعروف بالـ ” الجنرال ” أن يساند مباشرة المرشح الرئاسي ” المنصف المرزوقي ” من خلال الغناء في حملته و دعمه بأغنية خاصة و الجانب الآخر اختار فنانون مثل ” كافون ” حملة المرشح ” سليم الرياحي ” و ” بلطي ” حملة المرشح ” الباجي قائد السبسي ” في حين اختار ” كلاي بي بي جي ” أن لا يكون محايدا و أن يصدر أغنية بعنوان ” لسنا للبيع ” و فيها رفض لاصطفاف الفنان وراء أي طرف أو حزب سياسي بعينه مقابل بعض الدنانير.
الباجي قائد السبسي المرشح الرئاسي سنة 2014 و خلال الحملة الانتخابية يتفاعل مع أغنية ” حوماني ” و هي من موسيقى الراب وواحدة من الأغاني الأكثر مشاهدة في تاريخ اليوتيوب في تونس
الراب الإسلامي.. شبه ظاهرة دون وزن فني
ارتفاع موجة موسيقى الراب في تونس واكتساحها كل الأشكال الموسيقية الأخرى وحضورها القوي واللافت في كل المنصات والمحامل التواصلية رافقته موجات ارتدادية موازية تماما مثل تلك الموجات التي تظهر بشكل متواتر في السينما وفي الأدب العربيين بشكل مخصوص والتي يسعى أصحابها ومطلقوها إلى تبني ” السينما النظيفة ” و ” الأدب النظيف “وهي في الأصل محاولات خلق توازن وهمي سرعان ما تنتهي إلى أعمال وآثار مشوهة يعمل أصحابها على المحافظة على قبيلة من المراقبين مستيقظة في داخلهم.
في تونس يستعمل مصطلح ” الراب النظيف ” في اتجاهين يتعلق الأول بنسخ معدلة من الموسيقى الموجودة أصلا والتي تتيح لأصحابها فرصة التواجد على المسارح خلال التظاهرات والمهرجانات الصيفية منها خصوصا كما يرتبط هذا المفهوم وفي الضفة الأخرى بالنسخة ” الإسلامية ” لهذه الموسيقى والتي تكون وبشكل بديهي ” محافظة ” وشديدة الحرص على اختيار الكلمات والمضامين تماما بنفس مقدار حرصها على اختيار جمهورها الأمر الذي يمكن تفسيره من خلال تواجد هذا النوع من الموسيقى و بشكل شبه حصري داخل الفعاليات و التظاهرات الراجعة بالنظر الى حزب النهضة الإسلامي سواء كان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر من خلال الجمعيات و الأطراف المحسوبة على هذا الطرف السياسي .
موسيقيا لا يمكن وسم ” الراب الإسلامي ” في تونس بالظاهرة لمحدودية التجربة في الكم والامتداد الزمني حيث تصبح المعالجة والقراءة السياسية أقرب للواقع برغبة الطرف الإسلامي السياسي في التواجد داخل أوساط الشباب من خلال هذا النوع من الموسيقى ولكن بشروطه ومع وضع ترسانة من الضوابط الأخلاقية خصوصا والتي سرعان ما انتهت بهذه الموسيقى ” الهجينة ” الى الاختفاء والأفول خصوصا وأن هذا النوع من الموسيقى خلق وبالأساس حتى يكون متمردا وغير منضبط.
الميديا الجديدة أطلقت أيادي موسيقى الراب
بشكل شبه متفق عليه فإن الميديا الجديدة (يوتيوب، فايس بوك … ) اليوم تعد السبب المباشر في اطلاق أيادي موسيقى الراب سواء في العالم العربي أو في تونس بشكل مخصوص و الحديث هنا يمر عبر مستويين يتعلق الأول بكسر التمشي النمطي التقليدي و الذي يمكن من خلاله الظهور داخل وسيلة إعلام تقليدية ( تلفاز , راديو .. ) والذي يتطلب مراكمة رصيد فني وتكوين شبكة من العلاقات داخل المجال الإعلامي الأمر الذي قد يمتد زمنيا ويطول والسبب الثاني يتعلق بتلك الدرجة من الرقابة والتحفظ الأخلاقي خصوصا والتي تميز وسائل الاعلام التقليدية ولعل ما يميز الميديا الجديدة اليوم وبجمع المستويين المذكورين معا هو ذلك الهامش من الحرية والانطلاق الذي يتوفر بأبسط الإمكانيات اذ يكفي توفر هاتف بسيط متصل بالأنترنيت لطرح ” عمل ” في شكل ضربة حظ بوسعه نقل صاحبه بشكل سريع وجنوني من عالم الظل الى الأضواء.
توفر الميديا الجديدة اليوم وخصوصا حين يتعلق الأمر باليوتيوب خدمة العائدات المالية والتي يتم احتسابها على قاعدة عدد المشاهدات لكل فيديو تقع اضافته الأمر الذي يشكل حافزا إضافيا لفناني موسيقى الراب للاستمرار والمواصلة بتطوير تقنيات التصوير وتحديث المعالجة التقنية لما يقدمونه.
ضمير ديني فجأة.. هكذا انتهت مسيرات بعض فناني الراب
بشكل مباغت توقفت مسيرة فنان الراب ” ايمينو ” و اختفى عن الأضواء مرة واحدة رغم نجاحه و في ضرف زمني قصير في التقدم الى الصفوف الأولى في عالم ” موسيقى الراب ” في تونس اختفاء لم يدم طويلا بعد أن عادت أخباره دون عودته هو وسط حديث عن التحاقه بتنظيم ” داعش ” الإرهابي في سوريا الأمر الذي شكل صدمة حقيقية لا للمحيطين به فحسب و لكن لمتابعي أغانيه التي كان يوفر فيها لنفسه مساحة غير محدودة من الحرية و التحرر البعيدين عن القوالب و الضوابط بأنواعها لتبقى الرواية الأقرب و المفسرة لذلك هي عمليه غسل دماغ تعرض لها لدى سجنه في احدى قضايا تعاطي المخدرات.
قصة ” ايمينو ” تحولت فعلا الى قضية رأي عام وأصبحت محل نقاش غير أن ما تحجبه وما تثيره في نفس الوقت هو ذلك العدد الهائل من الشباب الذين يتعرضون لنفس الحيثيات التي مر بها ” ايمينو ” ولا يجدون ذات الحجم من التفاعل والاهتمام الإعلامي.. هؤلاء الذين يتعرضون يوميا للتمييز والفرز حيث تقتل مواهبهم وأحلامهم ويدفعون دفعا انحو التطرف.
فنان الراب ايمنو ..
مقال لـ ” خليل قطاطة.