بشكل منطقي فإن الأحداث المتفرقة والتي ترد معرفة بكونها أعمالا فردية معزولة وفي حال تكرارها وتواترها داخل الزمن أو المكان الواحد فإنها تمر مباشرة الى فكرة التحول الى سياق حري بالدرس والتثبت خصوصا حين يتعلق الأمر بالممارسة الجماعية التي يمكن تحليلها ضمن خصائص الشخصية الجماعية لمجموعة معينة كما يمكن تفكيكها لدرس جملة التغيرات الحاصلة داخل هذه المجموعة على ضوء عوامل تأثير متنوعة يبقى أثرها الأبرز ربما منعكسا على المسألة الذوقية والجمالية التي يمكن تمييزها داخل كل مجموعة بشرية. بشكل مباغت ووسط تراكم أخبار و تطورات قضية ” الخدج ” الذين راحوا ضحية الإهمال الطبي في مشفى الرابطة العمومي بالعاصمة تونس و مع ارتفاع منسوب أخبار التحرش الجنسي داخل المؤسسات التربوية دون غيرها طفت على السطح و بفضل التواصل الاجتماعي دائما ( الفايسبوك ) قصة أخرى تتعلق هذه المرة بقيام وزارة التجهيز ممثلة في مصالحها بـ ” طمس ” جملة من اللوحات الفنية التي كانت تزين أسفل ” جسر ” الجمهورية و التي أمن مجموعة من الفنانين الذين يجاوز عددهم المائة رسمها و تركيزها داخل هذا المكان الحيوي الذي تستقبل فيه العاصمة الوافدين عليها الأمر الذي تم الاشتغال عليه زمن منسوب التوتر السياسي الأعلى في تاريخ تونس و زمن الحاجة الملحة إلى بارقة أمل حين رأي القائمون على المشروع أن تكون بصرية لونية مختزلة لما يلتعج في الأنفس من رغبة نحو الأمل و الحياة بشكل مفتوح. ” الصدمة ” التي اشتعلت شراراتها الأولى لدى ” أرباب ” المشروع و الفنانين القائمين عليه سرعان ما انتشرت بين أوساط المهتمين بالشان الثقافي في تونس لتتجاوزهم اثر ذلك في شبه هزة ارتدادية لتصبح و بشكل سريع و صريح شأنا عاما في شكل استنكار لمثل هذا الصنيع و القرار الذي تم اتخاذه بشكل فردي سرعان ما أعاد الى المكان المذكور ” رماديته ” و كآبته بجعله مجددا مكانا محايدا دون ألوان. وفاء بالطيب فنانة تشكيلية كرامة بن عمر – فنانة تشكيلية
خبر طلاء الأعمال الفنية و طمسها تحت قنطرة الجمهورية و الذي تناقله الجميع في تونس تلقفته السلطة بمستوياتها من وزارة التجهيز المعنية رئيسيا بإتيان عمل مشابه إلى وزارة الشؤون الثقافية المعنية بدورها بالمحافظة على هذا الرصيد الفني و حمايته إلى رئاسة الحكومية المعنية بإحكام فتح عيونها على الجميع. لم تترك وزارة التجهيز مجالا للتخمينات و التأويلات حتى خرجت ببيان مفاده أن عملية الطلاء تمت بناء على معاينة وجود كتابات خادشة للحياء كتبت مؤخرا فوق الأعمال المذكورة الأمر الذي دفع بها الى اتخاذ قرار مماثل. الصدمة التي تقف وارءها وزارة التجهيز باتت مضاعفة مباشرة بعد صدور بيانها التوضيحي و الذي تحدث عن اللجوء الى ذلك بعد ملاحظة وجود كتابات خادشة للحياء فوق عدد من الرسوم الموجودة تحت قنطرة شارع الجمهورية من جهتها أصدرت وزارة الشؤون الثقافية بلاغا مفاده أنها تلقت دعوة من رئاسة الحكومة إلى استعادة أعمال المبدعين و الاستغلال الأمثل لهذا الفضاء بما يستحقه من جمال و فن و تعبير عن الحرية و التنوع. كان لدعوة رئاسة الحكومة أن تكون ذات جدوى إن تعلق الأمر فعلا بمجال آخر غير الثقافي يمكن فيه تفكيك الأشياء و تركيبها أو إتلافها و إعادة تصنيعها بشكل آلي لكن هذا الأمر أو الدعوة لا يمكن بأي حال أن تنسحب على عمل فني و إبداعي خارج عن التكون و التشكل بأمر سياسي فالدولة هنا ممثلة في رئاسة حكومتها تصر على لعب دور رجل الإطفاء بعيد اعن دور رجل الحكمة و التخطيط الذي بوسعه منع وقوع مثل هذا الأمر.
في شهر مارس أيضا و لكن في سنة 2016 قامت إدارة البريد التونسي بصفاقس بإزالة عمل فني تاريخي يعود للفنان التونسي ” زبير التركي ” بعد أن كان مثبتا على واجهة مقر المركز الرئيسي للبريد التونسي بصفاقس أياما بعد القيام بحجب نفس العمل بواسطة معلقة اشهارية ضخمة لكن تحول الثقافي في تلك الفترة الى شأن عام في صفاقس لاعتبارات تهم احتضان تظاهرة عاصمة الثقافة العربية ساهم و الى حد كبير في الضغط المجتمعي و إعادة العمل الفني المذكور الى مكانه بعد ذهاب القائمين على البريد التونسي الى أنهم رفعوا العمل قصد ترميمه و اعادته مجددا الأمر .
تمثال ” ابن خلدون ” و المركز في شارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة ” تونس ” لم يكن بدوره و في سنة 2014 بمنأى عن زحف وحشي رأس المال ممثلا في شركات الدعاية و الاستهلاك العالميتين ووحش غياب الخيال و القدرة على التحكم الجمالي في الفضاء العام سواء من خلال التخطيط أو الرقابة بعد أن تم حجب التمثال بمعلقة إشهارية تمت ازالتها حينها بعد حملة قادها الروائي التونسي ” كمال الرياحي “.
الحديث عن سياق كامل و عن عملية ممنهجة لتدمير الوجه البارز و الباقي من المعالم المميزة للتاريخ و الثقافة في تونس لا يمكن تصنيفه اليوم أو إدراجه ضمن باب المضاربة اللغوية بل إن من الواجب التنبه إلى كون الأمر سائرا بمتلازمتي الفراغ و التوحش حيث يستثمر الفراغ في الجهل و في غياب الدولة و غياب مشروعها بينما يعمل التوحش على اسثمار الفراغ من خلال التأسيس لتصحير المشهد و تغييره دائما ضمن سياق استدراج النمط المجمتعي الى حيث يراد له أن يكون ولعل واحدا من انعكسات ذلك و تمظهراته هو تعمد تحطيم ” حنايا ” المحمدية في شتاء 2018 بحجة تشكيلها خطرا على حياة المواطنين من خلال تجمع برك كبيرة من المياه حولها لكن اللافت هو أن الزحف السكاني و السكني هو الذي بادر بالاعتداء على المنطقة و على المعلم الأثري الموجود بها لكن الأمر الأبرز ربما هو تبني حزب ” النهضة ” ذي التوجه الإسلامي للأمر من خلال بيان رسمي عبر مجلسه البلدي المنتخب. في سنة 2011 و بعد فض اعتصامي القصبة الأول و الثاني عجلت السلطة في تونس بالقيام بعملية محو شامل لكل الكتابات و الشعارات التي تركها المعتصمون على جدران مكان الاعتصام فيما وصف حينها بالجريمة في حق الذاكرة الوطنية و الشعبية لما لتلك الشعارات من رمزية تاريخية و معنوية كان من الممكن المحافظة عليها بل و حفظها من التلف في شكل متحف أو مزار لواحدة من أهم الفترات المؤثرة في تاريخ تونس الحديث.
تقدم مسألة طمس لوحات جسر الجمهورية نفسها كأزمة ناتجة عن تراكمات عدة أكثر من كونها حادثة ناتجة عن خطأ بشري أو عن قرار جماعي أو حتى فردي غير موفق فهي تتجاوز ذلك الى حدود امكانية اعتبارها سياقا من الأخطاء التي تشق قواعد التواصل والخيال في تونس خصوصا حين يتعلق الأمر بمسألة التعاطي مع المسألة الجمالية والذوقية التي من شأنها تأثيث الفضاء العام. بشكل يبعث على الدهشة تعمل الدولة في تونس على سحب الانضباط الذي يفرضه قانونها المسير للوظيفة و المالية العموميين على تفاصيل الشأن الثقافي خصوصا من زاوية اخضاع الابداع و ما يدور في فلكه الى ترسانة من القوانين الجامدة ففي سنة 2014 على سبيل المثال و بعد التخلي عن نظام ” اللجان الثقافية ” ذي التاريخ الأسود تم اقرار نظام تصرف مالي جديد يهم تسيير المرفق الثقافي العام في تونس و لعل واحدا من أغرب تلك الفصول التي أقرت حينها هي خضوع كل تصرف مالي يفوق المائة دينار الى نظام الفواتير التقديرية و لكل أن يتصور أن دعوة شاعر أو كاتب تتطلب الاستظهار بثلاث فواتير تقديرية لثلاث شعراء أو كتاب آخرين.لاعتبارات تهم خصوصيته التي تميزه عن باقي المجالات والقطاعات يبقى الشأن الثقافي في تونس اليوم في حاجة الى مزيد تجويد القوانين الخاصة به والاشتغال عليه بجعلها مرنة وفي مستوى الطاقات التي تكتنزها تونس ليكون وبشكل فعلي وعملي حرا وخلاقا وتنويريا.
تحت قنطرة الجمهورية .. انتبه خروج جماعة التجهيز
نيران صديقة
طمس لوحات جسر الجمهورية لم يكن حادثا
أزمة خيال .. أزمة تواصل
خليل قطاطة
من جهته حمل اتحاد الفنانين التشكيليين التونسيين المسؤولية لوزارة التجهيز بعد هذا العمل الأحادي الجانب و الذي كان من الممكن تفاديه ببعض من التنسيق المشترك مع الفنانين أصحاب الأعمال التي وقع طمسها.