عاش متابعو الوطنية الأولى في العشرين ليلة الأولى من شهر رمضان متعة خالصة بمتابعة “المايسترو” ، العمل الدرامي الذي قدمته  القناة. عملٌ قطع مع النّمطية في طرح قضايا اجتماعية لم نعهد التطرق إليها بأسلوب فنّي درامي ساحر. عمل سعى من خلاله المخرج الأسعد الوسلاتي على تسليط الضوء على فئة اجتماعية تكاد تكون منسية، ألا وهي فئة الأحداث في الإصلاحية، ومن خلال هذا الإطار الدرامي تتفرع عديد القضايا والمسائل المتشابكة و ينبني مسار الشخصية المحورية و صورتها. فالمايسترو يروي حكاية  أستاذ موسيقي، و في تعدد تسمياته  موسيقي، فنان، مايسترو، أو ، وبأسلوب سخرية متكرر في المسلسل” عوادجي”،” درباكجي” موزيكجي”…أستاذ عانى التهميش و فقدان المعنى من خلال عدم القدرة على إيجاد مكانه المناسب الذي يتماشى مع هويّتِه الفنية… ليجد نفسه في سجن الإصلاحية، مكان تردد كثيرا في قبول العمل فيه و الولوج إلى عوالمه حين عينته وزارة العدل لتنشيط نادٍ موسيقي فيه…فالأمر يبدو نشازا “سجن وموسيقى”… ”فنان ومنحرفون”، “حرّ ومساجين” ‘…إلا أنّ كل هذه المتناقضات و الثنائيات التي جعلته يعيش حالة تمزّق في البداية و كل المعايير و الكليشيهات تلاشت بمجرد  أن انبنى جسر التواصل بين حاتم و “الأحداث”، جسر قوامه الموسيقى التي تجردنا من كل العاهات والوصوم والألقاب و تلخصنا في ذواتنا الإنسانية الصّرفة  و تُحررنا… فبفضل الموسيقى عاش كل من في الإصلاحية تجربة وجودية وحسية مع ذاته ومع الآخرين…أولهم “حاتم”  الموسيقي ذاته، الذي صار وجوده في ذلك المكان مبنيّا على فعل المقاومة المستميتة للتّكلّس، للرّداءة، للظّلامية و الإرهاب… ليكتشف أغلبهم أنهم بحاجة إلى  فعل “إصلاح” و “ترميم” من الداخل، انطلاقا من مدير الإصلاحية، و المربين و الحراس، أولياء أمور مراهقي الإصلاحية… واكتشفنا نحن أيضا وفي أثناء المشاهدة أهمية فهمنا لذواتنا والتصالح معها وتغييرها…دخول الفنان إلى تلك البقاع  احدث زعزعة للـ”سيستام” ، رجّة في المفاهيم المتداولة ، والأهم في الأخطاء المتداولة التي ارتقت  بمفعول التداول و التكرار والزمن إلى مصاف الحقيقة و العرف… جعل تلك النظرة الكلاسيكية للفن بوصفه مجرد وسيلة ترفيه ثانوية، غير ضرورية تتغير لتجعل منه عنصرا حياتيا حيويا ضروريا، يدفعنا الى التساؤل عن ذواتنا من خلال تأملها عن قرب و تحسس نقائصها وزلاتها وهو ما حدث مع غالب المراهقين المقيمين في الإصلاحية الذين نجحوا في تجاوز ذلك القلق الوجودي الذي يجتاحهم نتيجة زلاتهم و أحكام المجتمع المسقَطة عليهم خاصة ظاهرة الوصم التي ركّز العمل عليها باعتبارها قدرا يلاحق كلّ خريجي الإصلاحيات والسجون، و ما إحياء الحفل في آخر حلقة و في آخر مشوار موسيقي طويل في النادي الاّ محاولة  “ترميم” أو “تحسين” او”تجميل” صورة الأحداث، أو إجابة يصدحون بها في وجه المجتمع على كل الاتهامات و كل الرفض والإزدراء الذي ينتظرهم خارج الأسوار …الموسيقى جعلت الجميع يتعلّم فن الإصغاء إلى الذات وإلى الآخرين، يفتح باب الحوار والتواصل … رسّخت قيمة التسامح واضمحلت معها الضغينة، جعلت كامل العمل ينبني على الجدلية و الثنائيات والتضاد الذي جعل أنفاسنا تتعلّق و تشهق بكاءً حينا و ضحكا حينا آخر… عمل برع في طرح الأسئلة ليترك الإجابات معلّقة وعالقة في ذهن المتفرّج، ليصير مشاهدا مفكّرا و لتنتقل البطولة من الموسيقيّ إلى الموسيقى… ”لنا الفن كي لا تقتلنا الحياة”( نيتشه)

حنان شلبي

 

حوار مع ” المايسترو ” أحمد الحفيان

 

  • كيف بدت لك الشخصيّة من الخارج حين قرأت السيناريو و كيف عشتها من الداخل حين لعبتَ الدور؟
  • -لا يوجد بصراحة داخل وخارج الشخصية، فأنا بدأت أتعايش مع الشخصية منذ اللحظة الأولى للقراءة، فقد اكتشفت معها وسع عالم الموسيقى ومدى أهمية إحساس الحرية عند الفرد.
  • إلى أيّ مدى في شخصية حاتم شبه منك؟
  • شخصية حاتم أفضل مني بكثير، إنها راقية وفي نفس الوقت بسيطة،  يستطيع أن يكون تونسيا، وكثيرون منه موجودون و هذا الأهم، ولكن هنالك طبعا تشابه،  فقط يجب أن يكون هنالك خطوة عملية في اتجاه شخصية أخرى حتى استطيع أخذ مسافة  تجاه هاته الشخصية وأتمكن من عيشها، لأني أعيش الشخصية وهذا عادي ومألوف في مهنتنا ، وأنا لم أخترع شيئا…
  • هل أضاف الدور لتجربتك الإنسانية شيئا؟ ماهو؟
  • تعلمت من حاتم وسع الحرية والإيمان بها و في نفس الوقت أن هنالك حدود لكل شيء ، لان حاتم نشأ في الموسيقى، وبالتالي يرى كل شيء بوضوح، يحاول أكثر ما يكن أن يكون واضحا ليس إلا.
  • ألا ترى أن في المسلسل نوع من المبالغة أو السريالية في جعل الموسيقى تتغلّب على الجمود و “بلادة” القوانين الصارمة؟ أم أنّ الفنّ بإمكانه فعلا إصلاح ما أفسده “السيستام”؟
  • لا ليس تغيير الواقع مسألة سريالية إلى هذا الحد، لان حاتم يرى أن الواقع يتغير حين نعرف أنفسنا وتكون لدينا قابلية للتغيير، نعرف حدود و قوتنا نقاط ضعفنا ونسير بذلك للأمام  ونتغير حينها فقط يتغير ما يحيط بنا، هذا الحلم…أما “السيستام “أي النسق، نظام العيش، أو العقد الاجتماعي بالمعنى لسياسي نستطيع أيضا تغييره، تطويره، الموسيقى تساعدنا على فهم ذواتنا، لان جهلنا للموسيقى يعتبر جهلا لذواتنا.
  • ما هي خصوصية التمثيل مع شبّان يافعين يقفون أمام الكاميرا لأوّل مرة؟ ماذا تعلّمت منهم؟
  • أنا و “الأولاد” حين التقنيا في “البرايف” أي قبل التصوير، منذ اللحظة الأولى أحسسنا أننا سنعيش لذة الاكتشاف مع بعضنا،  اكتشاف عالم… وشعلة الاكتشاف هذه لم تنتطفئ لديهم، فرغم الصعوبات والتصوير  حافظوا  على تركيزهم وهذا مهم جدا، فحين ترى كل ذلك في شخص يعيش أول تجربة له  فهذا مكسب كبير ويمنحك شعورا بأنّ هنالك مشروع أجمل و أرقى.

(حاورته حنان شلبي)