من المربك فعلا أن تقع اليد على عمل أدبي وافد من عوالم روائية لا نكاد نعرف عنها شيئا و يبلغ ذلك لدينا ذروته بظهور كيمياء فريدة تشدنا نحو الأثر حتى يصير الكتاب فجأة غير قابل للطي أو للتأجيل حتى إذا ما بلغنا آخر صفحاته تجاوزنها إلى تدقيق قشرته الخارجية و معاينة مكان الترقيم الدولي فيه و تفصيل وضع الثمن من الناشر و مراجعة الشهادات التي قيلت فيه أو بعض من الأسطر الواردة سلفا في متنه الداخلي بحثا ربما عن مفتاح إضافي أخفاه الكاتب بعد أن ” نجح ” في شدنا إلى أثره و إلى تفاصيل كثيرة.

عشر سنوات أو يزيد هي عدد السنوات التي احتاجتها رواية ” النباتية ” للكورية ” هان كانغ ” للمرور من اللغة الأم إلى العربية و يعود الفضل في ذلك إلى المترجم ” محمود عبد الغفار ” و إلى ” دار التنوير ” التي دفعت بها إلى القارئ العربي فاتحة المجال أمامه لاكتشاف بعض من تفاصيل حياة شعوب الشرق الآسيوي في كوريا الجنوبية تحديدا بكل ما تحمل هذه التفاصيل من تعبيرات ثقافية تهم الأكل و العلاقات الاجتماعية و الأشجار العائلية ذات البنية المعقدة و المتشعبة.

في الحقيقية و على الأمر أن يأتي هنا في شكل اعتراف لا ضير من البوح به فقد نجحت الكاتبة ” هان كانغ ” في خداعنا مرتين في ” النباتية ” ففي المرة الأولى و استنادا على عنوان الرواية و على بعض من صفحاتها الأولي ذهبت إلى العمل على البحث خارج الكتاب داخل عالم النباتيين من خلال توفير بعض المراجع و عدد من المقاطع المصورة و الشهادات استباقا ربما لما سيقع الكشف عنه داخل الرواية من أسباب تحول شخصيتها المحورية ” يونغ هيه ” فجأة إلى ” نباتية ” خصوصا و أن جل الأفكار المسبقة و التي أوصلنا إليها البحث الجزئي تحملنا في اتجاهي المدافعين عن البيئة و الثروة الحيوانية تسجيلا لموقف أو نحو بعض من المضطرين إلى ذلك لاعتبارات مرضية مثل الحساسية أو الأعطال العضوية أما الخداع الثاني فقد جاء متعلقا بطريقة تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء من خلال وضع عناوين كبيرة فاصلة مشيرة إلى ثلاثة قصص مستقلة عن بعضها البعض.

لغرابة في أسماء الشخصيات و في تسميات الأماكن و أنواع الأطعمة و تسمياتها كان لزاما و حتى لا يضيع الخيط الناظم العودة مرارا إلى صفحات سابقة مع التقدم في القراءة للتثبت من تطابق الشخصية المتحدث عنها ” الآن ” مع شخصية سابقة غير أن المصاب الأكبر في الكتاب هو الاستعداد التلقائي فور الانتهاء منه لإعادة قراءته فقط بحثا عن هذه ” النباتية ” التي لم توجد مطلقا و التي لم تبن توجهها هذا على ” موقف بيئي ” و لم تدفع له لـ ” مرض ” عضوي بل كان ذلك ـلـ ” حلم “.

بلغة ” مقشرة ” و سلسة تمضي ” هان كانغ ” في تشريح شخصيتها المحورية من خلال استخراج كل التشوهات النفسية التي تعتمل في داخلها منذ سن مبكرة وصولا إلى مرحلة عمرية متقدمة اعتمادا على تقسيم الكتاب نظريا إلى مجموعة قصصية بثلاثة أجزاء لكن الحقيقة هي أن تقنية التقسيم المخادعة ساهمت و إلى حد كبير في إيجاد عمل روائي واحد و متين الترابط من خلال إفراد مساحة كبرى في كل جزء منه لوضع ” يونغ هيه ” في كل مرة في مواجهة شخصية بعينها و تأتي ” الفرادة ” التي نتحدث عنها من ناحية الاشتغال على الأجزاء الثلاثة بشكل مختلف فحين ورد الأول أقرب إلى الميتافيزيقي جاء الثالث سوداويا تماما بينما كان الثاني إيروسيا بامتياز.

متأرجحة بين ” النسوية ” و بين ” الأدب النفسي ” تعمل ” النباتية ” على كشف تأثير التفاصيل الصغيرة المرافقة لتكوين الطفل و تفاقمها داخله مع تقدمه في العمر و تحولها تباعا إلى حالة من الرفض أو التمرد الذي يفضي إلى اعتبار صاحبه ” مجنونا ” و خارجا عن الخط الأبيض المتواصل الذي لا يعرف أحد واضعه و تلعب السلطة الأبوية في ذلك دورا حاسما و محددا لاعتبارات تهم التسلط و العنف و اجبار الطفل على بعض الممارسات و التقاليد المتبعة في المجتمع بشكل أعمى و حتى لا نذهب كثيرا في التفاصيل التي قد تفسد على قارئ الكتاب مستقبلا نكتفي ربما بالإشارة إلى أن المجتمع الكوري يعتقد بأن الطفل الذي عضه كلب ملزم بمشاهدته يقتل بطريقة الجر مربوطا بعربة حتى الموت ثم الأكل من لحمه بعد طبخه ..