هب.. أن.. محمود عبد العزيز “مثلا ” وبعد أن قام عامل في قاعة سينما بالإسكندرية بكنس آخر قصاصات تذاكر عرض فيلمه ” الكيت كات ” قد عاد الى منزله متأخرا ليقوم بتقليب مجلات قديمة وليحدق في سقف غرفته متسائلا عن المرحلة الموالية بعد الورطة/السقف الذي وضعها بنفسه ولنفسه بتركيب شخصية عبقرية كشخصية ” الشيخ حسني ” وهب مرة أخرى أن محمود عبد العزيز المتأمل حينها في الفراغ لم يجد إجابة على هذا السؤال سوى إلقاء جسده فورا من الشرفة القريبة بعد أن فتح عينيه على الفراغ.. للمرة الثالثة تعسفا هب أن جسد الفنان المصري الآن معلق في الفضاء تفصله وفي هذه اللحظة عن
الأرض ثلاثة طوابق ولنتركه هكذا معلقا.

” لا شيء في مكانه ” * أمر لا يمكن المرور إلى تفاصيله دون العبور منه عبر محاولة فصل خاسرة بين ” سفيان رجب ” الشاعر الذي أعرف و ” سفيان رجب ” السارد الذي أكتشف ” فقوافل الشعراء التي شدت رحالها منذ سنوات إلى فضاءات السرد غاب أغلب من فيها ولم يصلوا إلى وجهاتهم وتعذرت عليهم طرق العودة إلى شعرهم فتحججوا باليومي وبالارتباطات الزوجية والعائلية وغابوا في الكتب الموازية..

بكتابه القصصي الأخير ” أهل الكتاب الأحمر ” و الصادر حديثا عن دار زينب للنشر يبدو سفيان رجب و للوهلة الأولى سالكا لأرض يعرف طينها و حصاها و رمالها المتحركة و نجوم ليلها و أماكن تمركز حيواناتها و زواحفها بل و حتى عيونها الشحيحة ناهيك أن قارئ الكتاب يمر بحالتين فريدتين و متكاملتين الأولى زمن القراءة و الثانية لحظة الانتهاء منها.

من البداية كان جليا أن الكتاب يتوجه رأسا إلى كل الذين يرومون الفوضى لذاتها ليستثني بذلك و من طريقه أصحاب الأفكار المرتبة بعناية الخدمات الفندقية الفاخرة و المملة و كل أولئك الذين يذيبون اختلافاتهم داخل المجموعات بعنوان المحافظة على السلم الاجتماعية و كل الذين يعتزمون إنفاق أعمارهم كلها بنفس تسريحة الشعر و بتشجيع نفس فريق كرة القدم و انتخاب نفس الحزب وقراءة الكتب الجيدة فقط دون مغامرة أو رغبة في اكتشاف ما.

في ” أهل الكتاب الأحمر ” يأخذك الكاتب من يدك بإرادة كاملة منك ووعي بذلك لتأخذ مكانك على طاولة تشريحك و يناولك المشرط بيديه لتنطلق و بوعي كامل في استخراج أجزاء من كبدك و عينات من دمك و بعض من حمضك النووي بيديك دائما لتمر إلى استئصال كليتيك و استخراج قلبك من مكانه و ترتب كل ذلك على طاولة مجاورة في تشريح ذاتي لكل ما كنت تعتقد أنه في مكانه الطبيعي و أنت تفعل ذلك تتفطن إلى أنك قد نسيت حقن نفسك بالمخدر غير أن الكاتب يطمئنك بأن الجرعة التي أفرغها في دمك من السخرية السوداء و المرة كفيلة بجعلك تواصل تشريح نفسك و تشريح كل ما اعتقدته قبل الكتاب ثابتا و مقدسا و أساسيا ليمر بك بين كتابتين تشبهانه الأولى بين ما يكتبه العراقي العبقري ” حسن بلاسم في ” معرض الجثث ” و الثانية لدى كافكا في كل ما كتب تقريبا وذلك دون أن يسقط في إحداهما ليشبه نفسه دون سواها.

عند الانتهاء من قراءة ” أهل الكتاب الأحمر ” لسفيان رجب يراودك شعور آخر متصل بالأول حيث تشعر بالرغبة في نزع رأسك و فصلها عن رقبتك وتعويضها فورا بأي جسم آخر ندما منك ربما على السنوات التي أفنيتها و أنت تحشو الرأس القديمة بذلك الكم من الأفكار و من الثوابت التي سقطت فجأة لتدرك كم كنت غبيا و كم كنت نمطيا حين كانت حياتك تنطلق بالاستماع إلى صوت فيروز صباحا و حين كنت تلتزم بموعد القيلولة و غسل أسنانك قبل النوم و حين كنت تعتقد أن التدخين مضر بالصحة لكن هاهي الفوضى ذات التوزيع العادل بين كل الديانات و الطوائف و القوميات و الأوطان.

بالعودة إلى ” محمود عبد العزيز ” الذي تركناه معلقا قبل قليل تراودك في الكتاب الأحمر و أهله أفكار غريبة تمعن في جعل الكتاب تفاعليا رافعا لمادة الأدرنالين و محفزا على التخيل و البحث عن الحفر في الطريق بدل الابتعاد عنها لتعود شخصية ” الشيخ حسني ” في كل مرة إلى الواجهة و المشهد حيث تعتقد في الكثير من المشاهد أن الشيخ سيخرج عليك بتلك الدراجة النارية على غير هدى ليدوس كل ما في طريقه من بشر و متاع فقط ليفوز بذلك الشعور العظيم بإعادة تشكيل ما يعتبره الناس قدره المخطوط سلفا .. غير أن الرابط الافتراضي بين ” الكيت كات ” و ” أهل الكتاب الأحمر ” يبقى في ذلك السقف المرفوع و خصوصا في السؤال حول هل بعد هذا .. بعد ؟؟ هب ..

———————-
* نص للشاعر التونسي محمد الهادي الجزيري

خليل قطاطة