هب.. أنك وفي زمن الشبكات المتداخلة والفوضى وانتفاء إمكانية محافظتك على البقاء مع نفسك لخمس دقائق متواصلة ومسترسلة.. فجأة.. وجدت نفسك واقفا عند باب بيتك لمدة ثلاثة أيام أو أكثر دون أن يسجل ” هاتفك الذكي ” علامة واحدة تربطه بالشبكة.. ألا يمر بك كائن.. حدثنا أحد العائدين من رحلات التدريس الدورية في العمق التونسي غير المدرج على الخارطة أن صائحا قد دخل المقهى يوم الأربعاء مبشرا بنتيجة مبارة ” كرة قدم “كانت أقيمت يوم السبت السابق.. هكذا وبذات المنطق كان مدرس الجغرافيا عبثا يحاول أن يقنعنا بأننا ” جميعا ” على هذه ” الرقعة ” نقف معا فوق صفيحة تكتونية واحدة قبل أن نباغته بعد سنوات وذات ” أحد “منخرطا في تلوينها ” وعيا ” تماما بعد يوم من اختتام فعاليات ” أيام قرطاج السينمائية “التي لبثنا أياما في انتظار دخانها الأبيض متمركزين دائما في الجهة الأخرى غير متمكنين من مشاهدة ” سينماها “.

” دخان أبيض ” كان من توابعه خروج فيلم ” نورة تحلم ” لهند بوجمعة متوجا بالتانيت الذهبي مخلفا عاصفة من التعليقات الافتراضية الذاهبة الى عدم جدية الترتيب المعلن اعتبارا لأحقية أعمال أخرى غير أن السواد الأعظم من التعليقات ورد علينا أخلاقيا بامتياز منددا بعنف لفظي مبالغ فيه داخل العمل ساترا ” مرة أخرى ” دعاة السينما النظيفة والفن النظيف عموما أمر لم نكن لنفك بعضا من رموزه لولا عثورنا على معلقة تشير الى عرض الفيلم قريبا ” عندنا ” بعد أن استفذ كل ما لديه في المركز أمر يشبه وإلى حد كبير في تعاملنا معه مشاهدة و تعليقا و كتابة أن يقوم شخص ما اليوم و في سنة ” 2019 ” بتقديم قراءة في فيلم ” الرسالة ” و لكن ..

“نورة “.. الوطن غاسلا وجهه بالصابون والماء

بعكب عال وتجربة طويلة أمام الكاميرا في تونس وخصوصا خارجها تقف ” هند صبري ” في شخص ” نورة ” أمام كاميرا ” هند بوجمعة ” في فيلمها الروائي الأول لتلعب دور الأم المباشرة مهامها جميعا انطلاقا من الأحياء الخلفية للعاصمة ” تونس ” حيث تعد المساحيق و ” الماكياج ” نوعا من الرفاه  و حيث الوطن الغاسل وجهه صباحا بالماء و الصابون و لعل هذا ما حرصت المخرجة و كاتب العمل على تجسيده فعلا على وجه ” هند صبري ” الطبيعي و المتخلي بدوره عن المساحيق ليرد علينا حقيقيا و متناسقا مع أحداث العمل و سياقاته و أماكن تصويره المعتمدة.

تأصيل دور الأم داخل “نورة تحلم ” لم يكن ليكون ظاهرا بما يكفي دون احتدام العلاقة بين شخصيتي الزوج التي قام بتأديتها كل من” لطفي العبدلي ” والحبيب التي تقمصها ” حكيم بو مسعودي ” حيث تظهر ” نورة ” في موضع الأم الحامية لأطفالها والعاملة المضطهدة والزوجة الصابرة والحبيبة الراغبة في اقتناص لحظات أفضل غير أن هذا التأصيل قابله وفي الجهة الأخرى عملية قنص جديدة للأب ولصورته.

لا يتعلق الأمر هنا بإلغاء فضل آباء السينما التونسية ومؤسسيها ودورهم في وضع لبناتها الأولى لكنه ذهاب منطقي وحقيقي الى أن الجيل الجديد من السينمائيين في تونس تمكن فعلا من ايجاد سينما تشبهه تكريسا ربما لفكرة ” قتل الأب ” بالعمل على سينما تشبه زمن تصويرها و تواكب تقنيات الصوت و التصوير و الإضاءة و هي فوق ذلك تشبه جمهورها صورة و لغة.

معجم واحد في الشتيمة والسباب والمدح.. مرحبا بك في تونس

حالة من الاستنفار التام هي تلك التي تعتري كل بيت من البيوت التونسية لحظة قدوم ضيف غير مرتقب أو غير مرغوب فيه خصوصا إذا كان البيت المعني في حالة من الفوضى التي لا يمكن ترتيبها أو لملمتها في وقت قياسي بين الإعلان عن قدوم الضيف واستقباله داخل البيت لذلك تعمد أغلب الأمهات إلى جمع الأغراض المتناثرة وإيداعها داخل غرفة بعينها لا تخصص للغرض لكنها تفي به في كل مناسبة مماثلة لتبقى عين الأم مثبتة على باب الغرفة المغلقة إلى حين مغادرة الزائر وعودة الفوضى إلى مكانها الأصلي. بنفس منطق الغرف السرية والتعايش السلمي مع الفوضى الخافية عن العيون يتعامل المجتمع التونسي مع ” فوضاه “بقلب ذات الأم الجامعة ولعل واحدا من هذه الوجوه المراد إخفاءها دائما هو علاقة التونسي بالكلمات الكبيرة مع التأكيد على أن توصيفها بالكبيرة هو اختيار لكون هذا التوصيف الأكثر حيادا بين المصطلحات الدارج استعمالها خصوصا تلك التي تحمل الأبعاد والأحكام الأخلاقية أو الدينية من قبيل البذيئة أو النابية وغيرها.

 من الغريب فعلا أن استعمال الكلمات الكبيرة في ” تونس ” ينحصر أو يكاد في معجم واحد تقريبا ويكمن وجه الغرابة في أن نفس المعجم يستعمل في سياقات مختلفة بل ومتناقضة فالكلمات فيه تؤدي الواجب وأكثر في الشتيمة والسباب وفي نفس الوقت للتعبير عن الفرح والمدح والحديث هنا يدور حول الأعضاء التناسلية للجنسين حيث يكون المجال مفتوحا لاستحضار الأم والأخت وبقية الأقارب من الأصول والفروع ذكورا واناثا للتعبير دائما عن السخط وبالتوازي عن الانتشاء.

 

خليل قطاطة