عندما سألت أستاذتي نجاة ادهان عن تعريف للمؤلف، أجابتني بأن المؤلف نوعان: مؤلف موهوب ومؤلف مثقف صاحب مشروع وحامل قضيّة ما.

لا أخفيكم سرا، منذ ذلك اليوم وأنا أزن النصوص الجيدة بغربال فعل القراءة، فيتساقط الغثّ منها ويبقى السمين لتستمر مرحلة الاستصفاء بحثا عن النصوص التي تحمل مشاريع هادفة.

اعذرني صديقي ناجي سأتعسّف على مقصدك. أذكر ذاك السؤال الكلاسيكي في دروس مادّة العربية: ما كان قصد المؤلف؟ أو ما المقصود بـ..؟ أو غير هذين السؤالين مما أخذ بمعناهما.
كنّا ندجّج أوراقنا بحجج وتفاسير لا أعتقد أنّ الكاتب أو الشاعر قصد إليها أو فكر في تضمينها. لم تكن أجوبتنا أكثر من محاولات نجهد بها في إصابة حقيقة المعنى ولو على نحو تقريبيّ. فمن ذا الذي يزعم قدرةً على العلم بالمضمرات أو على ردّ اللغة عن جموحها وهي التي تقول ما تريد لا ما أُريد لها أن تقول، ولو بلغ الكاتب غاية الحرص في ذلك؟

وها أنا اليوم بعد سنوات من تخرجي أبحث عن مقاصدك، فكن حليما واصبر على ما سأحمّل نصك من خيالات ومجاز، فأنت تعرف أن الكتابة تشكيل لغويّ مفتوح على ممكنات عديدة في القراءة وتعرف أن الكلام على الكلام مسالك إلى تلك المقاصد وإعادة بناء للمعنى لا أدعي فيه كمالا.

عندما قرأت عنوان المجموعة القصصية، قفز إلى غلاف ذاكرتي عنوان بالبنط العريض “زياد الرحباني في العقل زينة ولقاءه بكريستوف كولومب”

أمريكا تلك البلاد المبنية على رفات السكان الأصليين من الهنود الحمر، أمريكا التي كتبت أوراق تاريخها بدمائهم ودموع العبيد الذين كانوا يُساقون إليها بالجنازير والسلاسل الصدئة، أضحت دولة تتبجح بالديموقراطية وتقدم صورا عن الخراب الذي تسببت فيه، خراطيش من النجاتيف تقتل القلوب و”تشل الأصابع”.

أنامل العمّ سام توغّلت في الأديم والذهب الأسود واستعبدت الشعوب المفقرة (تهزون رؤوسكم موافقين: أليس كذلك؟ لكن “لاأحد منكم شاهد الجحيم”) كحبات متناثرة في قاع خلاط تجاهد حتى الرمق الأخير قبل أن تفتك بها السكاكين القاطعة وتعصرها عصرا.

أصبح الساسة كصلصال أمريكي الصنع، ليّن، طيّع بين أنامل صناع القرار، والشعوب تلذذت بالهصر الناعم، علب متكررة، أصبحت الحياة مجموعة مكعبات على اختلاف ألوانها وسعتها كـ”دولاب معاطف لكل واحد معطفه وأزراره التي تخصّه”.

لا يوجد ما يسمّى بالـ” التّاي ستوندار”، فالشخص الذي تعتبره ظهرك لا تستطيع إدراك حجم الألم الذي يكابده وأنت ترمي ثقلك عليه، ألم يدفعه دفعا إلى الاستعانته بـ”أقراص السيليبراكس” كي يتحمل راحتك.

نتكرر، والتاريخ يعيد نفسه في شكل مهزلة كرحلة الحياة “على السلالم” ، أحياء صعدنا وأمواتا ننزل وإن لوّنّا سلالم العمارة بالحشائش العطرية المنعشة وجعلنا “للموت لونا أخضر”.

إذا قرأت فأنت تعيش أكثر من حياة، أما إذا كتبت فإنك تلد من رحم خيالك شخصيات تتأثر بك وتؤثر فيك، تعاملها على أنها ذوات مادية تشاركك تفاصيلك وإذا غبت “افتقدتك” وكرّست حياتها في “انتظار السيد الكاتب”.

وقائع مدننا الغريبة (استعارة، بتصرف، لعنوان كتاب المبدع عبد الجبار العش) أنتجت “مستعمرة للنمل” تلتصق بالجدران الباردة خوفا من الدهس مخمنة فقط في لقيمات الخبز التي ستحملها إلى مساكن اتخذتها بعيدا عن مواطئ الأقدام. تسكن مدننا الإشاعات والنميمة واللغو ولا أفعال ولا مواقف محتشمة، حتى أصبحت مثالا يحتذى به “للفم الحارك…” .

مصائرنا نحن المتأثرين بالـ”حروب الليلية”، المستهلكين للأخبار العالمية العنيفة، أصحاب اللاحول واللاقوة واللاإرادة حتى في ردود فعلنا، بين فكي حكام الدرجة الثانية -“ماريونات”- بين أنامل المستكرشين والسماسرة الذين يشترون بهويتنا ثمنا قليلا، نحن الذين كنّا سببا في إطفاء فتيل النار عن طواعية ودخلنا لعبة العلبة بسلام وابتلعتنا “الأرائك الصفراء”.
يقول ناجي الخشناوي في كتابه: “في الحقيقة أنا لست كاتب قصص، أو صانع خيالات روائية (…) إنّ أقصى ما يمكنني فعله الآن هو أن أعثر على آلة التحكم عن بعد وأهمس لكاتب القصص هذا:

-سيّدي يمكنك إنهاء القصة الآن. “

وأقول له ختاما: صديقي، ليست النهاية أو البداية إلا تفاصيل، إحداهما باب للدخول والأخرى باب للخروج، وأما الجوهر فهو “الأثر” و”المشروع” الذي تحمله، تلك الرسالة التي تشبهك، تناضل من أجلها، مهما اختلف الزمان والمكان والشخصيات، وحتى الأحداث. فقط استمر في نحت طريقك وارم آلة التحكم وأنجز خيالاتك في الواقع. فقد آمنت برسالتك.


بقلم : إستبرق العايدي