تحدثنا في الجزء الأول من هذا المقال البسيط عن ضعف السيناريو وتداخل الرموز وهشاشة بناء الشخصيات، اما اليوم فسأركز على نواحي أخرى.
قتل القيم
ركزنا بالأمس على ظاهرة التطبيع مع الجريمة في الحكاية. ولكن ظاهرة أخرى تشدنا في هذا العمل وهي ضرب القيم من خلال الشخصيات الممثلة لها او من خلال الطرح العام للافكار
فيوسف ( من أفشل خيارات الكاستينغ!!!) يظهر في بداية المسلسل شابا محملا بكل القيم الايجابية فهو ملحن رومنسي طموح يرفض أموال والده ومشاريعه ويخير بناء نفسه بنفسه ويحبذ البعد عن عائلته ومشاكلها وإن أظهر تعلقا بأخته بية وأخيه قابيل، وهو إلى جانب ذلك يعيش قصة حب ناجحة مع حبيبته الطالبة القادمة من الريف، ويتوج هذا الحب عبر الزواج بها لأنه صادق وابن عائلة…!!! يعني أنه شخصية حاملة لقيم إيجابية في مجتمع متدهور…
وسرعان ما ينقلب حاله ( بقدرة الكاتبة) من النقيض إلى النقيض فيصير خائنا لمبادئه وقناعاته وحبيبته ( علاقة مسقطة مع فنانة!!! أرجو أن لا يعكس ذلك موقف رفيقة بوجدي من الفن والفنانين!!!) تتلوها مرحلة من الضياع ( سهر وخمرة) دون تمهيد او إعداد درامي لذلك.
القيم كذلك يجسدها الطالب اليساري الفقير ( فوجئت بأداء مراد المحرزي المتميز رغم انه مخرج لا ممثل) والذي ينتصر للفقراء والمضطهدين، هذا الطالب يصاب بخيبة عاطفية حين ترفضه طالبة الطب / الخادمة وتخير الارتباط بصديقه الكاذب الانتهازي، ويكون مصيره ( نظريا حسب الأحداث) السجن بعد وشاية من ابن قريته الذي آواه عنده لأشهر طويلة
فهل ثمة تعمد في قتل القيم؟!! ألا يوجد النور داخل الظلام؟!
ولماذا تعمد الكاتبة إلى رسم هذه اللوحة السوداء القاتمه؟!! كلها أسئلة نطرحها بحيرة ولا نقصد منها رمي تهمة فكرية أو ايديولوجية على مهندسة السيناريو.

أحداث في المهموته
نفهم منذ بداية المسلسل ان تجارة اسماعيل الغول هي في مجال قطع الغيار ( في أي مجال؟ في اي اختصاص؟! من هم زبائنه؟!! الله والكاتبة أعلم!!) ما هو الدور الذي تقوم به الشخصية التي أداها فتحي المسلماني؟
أما هارون الغول ( حلمي الدريدي الفنان المتميز في أحد أسوأ ادواره) فنفهم انه يتاجر في المخدرات ووسيطه في ذلك رجل ( شاذلي العرفاوي، المتميز كعادته) لكننا لا نعلم نوع هذه المخدرات ( زطله، ماريخوانا، كوكايين هيرويين.. الله اعلم) ولا طريقة جلبها ( تلميح للميناء) فقط نرى حقائب الأموال ( كل الأوراق النقدية في المسلسل من فئة الثلاثين ولا نعلم لماذا؟ هل للاحالة على الماضي باعتبارها غير مستعملة الان، ألم تكن ورقات العشرة والعشرين دينارا قيد الاستعمال حينها؟!!)..
الضبابية ( وبروط جاك الشاف) لا تتوقف عند هذا الحد، فالكثير من الأحداث في المسلسل يلفها الغموض وتسربلها الضبابية ( مصير حارس المبيت، مصير الطالب اليساري، حلقات اختفاء زوجة يوسف، علاقة طليقة هارون بتاجر المخدرات صاحب المطعم، وطبيعة علاقة الكاملة به …)
* مسلسل المصادفات العجيبة
يبدو أن الكاتبة وهي تنسج خيوط حكايتها ( بعض الخيوط تقطعت واضطرت إلى عقدها مع خيوط أخرى!!) لم تكن متحكمة في مفاصل الحكاية بشكل جعلها تستسهل بناء العلاقات بين الشخصيات دون أن تركز على الأضرار التي قد يسببها خيارها لدرامية الأحداث، لذلك أكثرت من خلق المصادفات الغريبة بل ان بعضها غير منطقي اصلا، من ذلك صدفة لقاء اسماعيل الغول بصاحب المطعم عند الفنانة أمينة ( دور باهت لإحدى اهم ممثلات السينما التونسية)، ومن الصدفة كذلك لقاء اسماعيل بابنه هارون عند المحامي ( ولم يلجأ إلى محام آخر!!!) ، الصدفة كذلك جعلت من الخادمة طالبة الطب تشتغل في نفس الوقت عند الطلبة وعند أمينة وأم زوجة يوسف ( الرائعة شاكره الرماح) تشتغل في دار الغول!!!
الصدفة تحكمت في الكثير من أحداث اولاد الغول، مما جعل السرد ( نصيا وفلميا) مفككا ومتشظيا ، تشظ سنلحظ تأثيره على نهاية أحداث المسلسل الذي لم ينته في نهاية الأمر ونرجو ان لا يمرجوننا بجزء ثان له.
من الغرابة كذلك في هذا المسلسل هو سرد بعض أحداثه اذاعيا لا بصريا، فشخصية قابيل الابن الصغير طالب الهندسة يقع التركيز ( على الاقل بين الكاملة وهارون) على أنه غير عادي ( لا نعلم ان كان ذلك لنزوعه نحو المثلية او لكونه عاجزا جنسيا؟!!)، ولا نجد ما يدل على هذا ” الشذوذ” بصريا وهنا نعود إلى هفوات بناء الشخصية..
احتقار الريف
من المسائل الممجوجة في هذا العمل الدونية التي صاغ وحرك بها الشخصيات القادمة من الريف وقد خلناها رحلت منذ سنوات وحتى الأمين النهدي لم يعد يراهن عليها.. فالطالب الذي يتزوج بنت الغول ( حاول المسكين جهده كي يتألق وهو القادم من دور ناجح في نوبة) يظهر في أغلب مشاهد المسلسل للهزء منه ومن جذوره، وبقية الشخصيات الريفية اما جاهلة او مريضة او مفتونة بالعاصمه وألقها أو خادمة لاسيادها ( نساء ورجال).
المهم لا أريد أن ازعجكم أكثر، ولكن لو حاولت تلخيص رأيي في هذا المسلسل لقلت إنه خطأ درامي كبير، وكان على المخرج وهيكل الإنتاج التفطن من البداية إلى ضعف السيناريو او الاستعانة بمعالج سيناريو ( سكريبت دكتر) لأن سيناريو كهذا لا يمكن حتى لتارانتينو ان يخرج منه دراما ناجحة مع سوء اختيار بعض الممثلين.. مما جعل العمل كارثة بأتم معنى الكلمة.. ومثال نموذجي للرداءة في الدراما التلفزيونية.