أجمع المتابعون للمسلسلات الرمضانية ونقادها ولجان تحكيم الاذاعات الخاصة والعمومية على تميز مسلسل ‘ حرقة * عن سيناريو لعماد الدين الحكيم وإخراج للاسعد الوسلاتي، وهو عمل استطاع أن يستأثر باهتمام المشاهدين خاصة وهو يتطرق إلى موضوع يكاد يمس كل عائلة تونسية.
المسلسل المحظوظ
كان يفترض أن يعرض مسلسل حرقة في موسم رمضان 2020 ولكن ظروفا حالت دون ذلك، وهذا حسب رأيى منح هامشا ايجابيا لأصحاب العمل وخصوصا مخرجه، ذلك أنه استطاع أن يؤمن أشهرا إضافية للتركيب والميكساج والايطالوناج ( تصفية الألوان) وهو ما لم يتوفر للانتاجات الأخرى.
كما أن هذه المساحة الزمنية سمحت بتنظيم حملة اشهارية متميزة للعمل كما ساهمت في جلب مستشهر من الاتحاد الأوروبي تولى إدراج المسلسل ضمن انشطته المتعلقة بالتصدي للهجرة السرية.
مسلسل حرقة جاء مباشرة بعد نجاح مسلسل ” مايسترو” لنفس الكاتب ونفس المخرج وهي من المرات القليلة التي راهنت فيها القناة الوطنية على نفس الفريق لموسمين متتاليين، إعادة التجربة للاسعد الوسلاتي جعلته يواصل التعامل مع ممثلين ساهموا في نجاح مايسترو مع إضافة اسماء أخرى من خيرة وجوه الدراما التونسيّة ( وجيهة الجندوبي ، عايشة بن أحمد، مهذب الرميلي، عبد اللطيف خيرالدين، ريم الحمروني وغيرهم…).
موضوع المسلسل هو الهجرة السرية لشبابنا في مراكب الموت نحو أوروبا ( إيطاليا بالأساس) وهو موضوع سبق ان تطرقت له الكثير من الأفلام التونسية ولكنه موضوع جديد على الدراما التلفزيونية وهو ما جعل المشاهدين متشوقين لرؤيته.
ميزات المسلسل
حرقة مسلسل اعتمد على قصص واقعية وثمة مجهود كبير على مستوى الكتابة في تدوين بعض الحالات الواقعية وكاتب السيناريو لم يهمل اختلاف الفئات الاجتماعية صلب الحارقين من شباب وكهول، رجال ونساء، عاطلين وغير عاطلين، طلبة وأميين، طيبين ومنحرفين، تونسيين وافارقة..
مجهود كبير كذلك على مستوى الرؤية الاخراجية للمخرج الأسعد الوسلاتي الذي أحكم تقطيع المفاصل السردية للحكاية كما وفق في اختيار الممثلين.
ويعرف المختصون أن التصوير في البحر هو من أصعب المهام خاصة في بلاد تغيب فيها مدينة سينمائية مجهزة بمسابح للتصوير.

اخفاقات المسلسل
ربما تكون كلمة اخفاقات مبالغ فيها ولكن لنعتبر أني سأتحدث هنا عن السلبيات التي لاحت لي في المسلسل والتي حدت حسب رأيي من تميزه وهي :
_ الجنيريك :
حظي العمل بأشهر طويلة لمرحلة ما بعد الإنتاج ولكن القائمين عليه لم يجشموا أنفسهم مؤونة انجاز جنيريك يليق بالعمل، فالممثل التونسي لا يحظى بالظهر في مسلسلات كثيرة طيلة مسيرته وهو غير معروف عند المشاهد التونسي فما بالك بالعربي وجنيريك الحرقة أساء الممثلين ولم يظهر صورهم إلى جانب أسمائهم وهذا خطأ فادح.
_ بطء الإيقاع :
الحرقة مسلسل لا يمكن متابعته بشغف ذلك أن الكثير من لقطاته بطيئة الإيقاع ومملة ( مثلا فترة بقاء الزورق المعطب في البحر… بعض لقطات مربي النحل الباحث عن ابنه…) وهنا ربما تعود المسألة إلى هذه الفترة الطويلة بين التصوير والعرض باعتبار أن ثمة لقطات ربما أضيفت لاطالة المسلسل
( لم أفهم لم 17 حلقة لا 15 أو ثلاثين..).
الخوف من التوثيق
مسلسل الحرقة اعتمد على الواقع لكنه عجز عن التخييل
( الحكايات فيه ذات مرجع في الواقع) وخشي مخرجه من التوثيق فلم يعتمد مادة توثيقية لا من قنوات محلية ولا من قنوات أجنبية، كما أنه عند حديثه عن مقبرة الغرباء في جرجبس جعل الشرطة والبلدية هي المتكفلة بعمليات الدفن وهذا غير صحيح باعتبار أن هذه المقبرة انبعثت من مجهود شخصي للبحار ( الذي تخلى عن البحر ليكرس حياته لدفن الغرباء) شمس الدين مرزوق وبعد ذلك بدعم من الهلال الأحمر التونسي فرع مدنين، هذا الرجل ظهر في أغلب تلفزات العالم في ريبورتاجات عن هذه المقبرة وكان يمكن استغلال وجوده لاضفاء مصداقية أكبر على الأحداث.
قد يقول البعض وما دخل البعد الوثائقي في عمل تخييلي أجيب هذا لا يتنافى مع ذلك ولكم في مسلسلي الاختيار والقاهرة كابول المصريين واللذين عرضا في رمضان هذه السنة خير إجابة.

انحسار مسافة التخييل
الحرقة اعتمد في ثيمته على الكثير من الشخصيات ولكنه فشل في التخييل حول جذور هذه الشخصيات ( أي من أين أتت؟ وما هي خلفياتها الثقافية والاجتماعية؟..) بإستثناء الفنان المسرحي الأعمى والشاب ابن وجيهة الجندوبي ( رغم أنه مات كشخصية منذ توقف الزورق في البحر واكتشاف كلبه..)..
كما لم يقدر كاتب السيناريو على خلق هوامش لتطور الشخصيات والعلاقات بينها سواء في البحر أو خلال الإقامة في مركز الايقاف.. فبقيت أغلب الشخصيات بائسة تجتر نفس الحالات والخطابات دون لمسة متعة أو تشويق.. ولكأن السيناريو وقف عند شهادات واقعية دون محاولة بناء حكاية سردية ( قصصية) للأحداث.
وحتى الشاب خالد ( الذي يغيب في تسعين بالمائة من الحلقات يظهر في الحلقة الأخيرة بلحية، لا تفسير ولا تمهيد سردي سبقها) لا نفهم سر اختفائه وعدم مكالمته والده ( الذي يلح طيلة المسلسل أن ابنه لا بد أن يتصل به إن كان بخير!!)
سوء تمثل إيطاليا
لعل اكثر أقسام المسلسل ضعفا هي تلك التي تدور أحداثها في إيطاليا، ذلك انها بعيدة عن الواقع فمدن الجنوب الإيطالي
( نابولي، بالارمو، صقلية..) لا نجد فيها تمظهرات عنصرية قوية بالشكل المعروفة به مدن الشمال الإيطالي. إضافة إلى أن الجمعيات والمنظمات الدولية المهتمة بالمهاجربن لا يتوفر فيها كل ذلك التعدد العرقي ( اروبيون، تونسية، مصري، جزائري..)، ومراكز الإيواء في إيطاليا لا تدار اداريا بتلك الطريقة وحضور المغاربيين فيها ظرفي ومرتهن بالترجمة فقط.
على كل.. حرقة مسلسل جيد كان يمكن أن يكون أفضل لو تحلى السيناريو بفسحة خيال أكثر ولو اعتمد على جانب توثيقي مميز..
