في واحدة من مقابلاته التلفزيونية الأخيرة والنادرة بالأساس كان ضيف الإعلامية ” منى الشاذلي ” صاحب نوبل الفيزياء ” أحمد زويل ” وعلى امتداد ثلاث ساعات تقريبا يسرب تدريجيا الألم الذي لحقه برفض نظام مبارك حينها مشروعه العلمي الذي كان ينوي تركيزه في القاهرة على شكل مدينة جامعية. حوار تلفزي كانت تحكمه ضرورات الحصار المضروب حينها على حرية التعبير بشكل عام وعلى الدكتور زويل بشكل خاص حتى أن مجمل المواقف التي عبّر عنها جاءت مهربة تماما مثلما ” تهرب علب الشاي من الحدود”.

في معرض حديثه عن ابنه وعن ظروف عيشه وتأقلمه داخل المجتمع الأمريكي تعرض ” زويل ” الى حادثة صغيرة تلخصت في عودة ابنه الصغير ذي السنوات التسعة منهكا من يوم مدرسي دارت فيه انتخابات مصغرة تقام دوريا داخل الفصول المدرسية. يروي ” زويل ” أنه بادر ابنه بالسؤال عن المنصب الذي ناله بعد ذاك اليوم فكانت الإجابة ” ترشحت لأكون نائب رئيس وحصلت عليها “. الأب المصدوم من الإجابة والنتيجة معا كان يعلم تمام العلم أن ابنه وفي صورة ترشحه في خطة رئيس كان سينالها بأريحية مطلقة للشعبية والود اللذان يحظى بهما في فصله ولدى مدرسيه فكان من الطبيعي أن يبدي بعض الامتعاض لكن الإجابة الصادمة فعلا كانت لم تأتي بعد.

ابن السنوات التسعة أجاب أباه بأن الطبيعة لا يمكن أن تحتمل أن يكون الجميع قادة أو أصحاب قرار بل ان الطبيعي في الأشياء هو أن يكون هناك أناس تحت الشمس وآخرون بين الظل والشمس وآخرون في الظل تماما حتى تتمكن المركب من الحفاظ على التوازن خصوصا حين يعرف كل صاحب مهمة حدود دائرة حركته.

” لا شيء في مكانه ” هو عنوان ديوان شعري للشاعر التونسي الجميل ” محمد الهادي الجزيري ” الذي نرجو له السلامة بالمناسبة لكننا نجد أنفسنا وفي كل مرة مضطرين لتأميم هذا العنوان وتوزيع دمه بين القبائل والقطاعات والمجالات وداخل أدق التفاصيل في تونس خصوصا حين يكون المنحى ثقافيا وغير معزول وبشكل بديهي عن كل ما يدور حوله اجتماعيا وسياسيا.

في ” تونس ” وحين نمرر أيادينا على ” القماش ” الذي منه ” خيط ” الذين يكتبون ” القوانين ” و ” خيط ” الذين ” يطبقونها ” والذين يسطرون مصير أجيال قادمة بالإضافة الى المتداولين على ” تأبط ” الحقائب الوزارية والمناصب ذات التأثير المباشر وغير المباشر على السير الطبيعي للأشياء وحين يصير كل هؤلاء ” دفعة واحدة ” ” تريندات ” وعرضة للأضواء ونجوم مجتمع.. حينها يصير من الطبيعي أن يرى كل فرد نفسه مكانهم خصوصا حين برى أنهم لا يتجاوزونه سوى ” بالصبر “.

مجموعة من الحفلات و كفى

في سنة 2013بعد مجهودات مضنية ومتظافرة جعلتها الظروف الأمنية حينها صعبة ومعقدة تمكن مهرجان صفاقس الدولي من العودة الى مهده الطبيعي بمسرح الهواء الطلق بسيدي منصور في دورة مبتورة توقفت بحادثة اغتيال الشهيد محمد البراهمي.

كان للهيئة المديرة في ذلك التاريخ تحديدا السبق في تركيز ” مفهوم التوافق ” بتونس قبل ظهوره سياسيا وذلك بتامين وجود مختلف الحساسيات السياسية والفكرية فيما يشبه فكرة تسريع الحصول على طفل بجلب تسع نساء وتكليفهن مجتمعات بإنجاب طفل في شهر واحد. حتى أن واحدة من النقاشات الحادة حينها تمحورت حول تخلي المحسوبين على ” الإسلاميين ” في الهيئة عن كل التواريخ لفائدة الطرف الثاني مقابل ترك تواريخ العشر الأواخر من رمضان لهم يخطون برمجتها بما يرونه صالحا وخصوصا ليلة السابع والعشرين من رمضان.

بتعاقب الهيئات المديرة على مهرجان صفاقس الدولي وتتالي الدوارات وصولا الى دورة الحال ( 2022 ) صار من الممكن الآن الحديث عن تقييم اجمالي يتناول بالأساس فكرة تنازع المهرجان بين ثنائيتي ” الاحتفال ”  لذاته و  فكرة ” المشروع الثقافي ”  بالإضافة الى المسألة التنظيمية فيما تعلق خصوصا بتقاطع ذلك مع صعود نجم النقابات الأمنية هذا بالإضافة الى المسألة الاتصالية.

بالعودة الى وثيقة البرمجة التي قدمتها الهيئة المديرة للمهرجان هذا العام والتي انتهت من تنفيذها منذ أيام قليلة يمكن استخراج ملاحظات سريعة قبل تفصيلها بتأن أولها هو أن برمجة مماثلة قد قدت على عجل بنفس الطريقة ربما التي كنا نعد بها واجباتنا المدرسية بالاستناد الى السيارات الراسية أمام المعاهد. نقول على عجل لأمرين أولهما هو أن أصحاب البرمجة اختاروا هذه المرة وبعناية العروض التي من الممكن أن تكون لها عائدات مالية ” هامة ” وهي العروض التجارية بالأساس ونقول على عجل أيضا لاعتبارات تهم مثلا برمجة بعض العروض مرتين في نفس الدورة لاعتبارات تجارية( عرض الزيارة بنظام الذهاب و العودة ) ولكن هذه المرة بشكل صارخ وأشد وضوحا.

الإصرار على تكريس البعد ” الترفيهي / التجاري ” داخل مهرجان بعراقة مهرجان صفاقس الدولي وصل إلى دورته الثانية والأربعين قد لا يبدو “حادثا ” هذا العام خصوصا بعد العودة الى برنامج الدورات السابقة حتى تلك التي سبقت سنة الـ 2013 لكن الميزة هذه المرة كانت الاكتفاء بالتجاري دون غيره.

تعرّف الاحتفاليات بكونها الأحداث التي يقع تركيزها داخل فضاءات مغلقة بعينها ويكون الهدف من وراءها الاستثمار في ” الزمن ” من خلال تحديد مدة انطلاق وتوقف بالإضافة الى السعي الى استمالة أكبر شريحة ممكنة بهدف تحقيق ربح مادي أسرع وأنجع بمنطق ما يطلبه السوق أو المتفرج.

في السنوات القليلة الماضية كان المعطى التجاري حاضرا لكن بعض الفعاليات و العروض غير التجارية و على الأقل كانت تتسلل لتكسر هذه الحلقة قبل أن تعودا سريعا الى مخبأها  الذي جاءت منه حيث كنا نرى بعض الفعاليات التي تقام في الشارع و الفضاء العام و حيث كنا نرى تنظيم عدد من الأمسيات الأدبية و الشعرية هذا بالإضافة الى عدد من العروض الموسيقية و المسرحية من غير تلك التي صارت اليوم سيدة الموقف و لعلنا نذكر قدوم  فنان الجاز” فوزي الشكيلي ” و ” لبنى نعمان ” و  ” مارسال خليفة ” و ” نور مهنا ” و عروضا مسرحية من قبيل ” الشقف ” و ” ألهاكم التكاثر ” و غيرها من العروض التي جعلت من المهرجان و من الدورات السابقة مراوحة مكانها بين العمل من خلال رؤية ثقافية و تحقيق الترفيه في حدود شبه معقولة.

شبابيك مغلقة وأبواب مفتوحة

 

خلال فترة اشراف الدكتور ” الأسعد الزواري ”  على إدارة المهرجان من سنة 2013 الى 2016 تم العمل على تكريس فكرة القطع مع مجانية مواكبة العروض من خلال تجهيز مداخل المسرح الصيفي بتجهيزات و تقنيات تتيح لحامل تذكرة أو دعوة فقط الدخول للفضاء  لكن و مع انتهاء تجربة الهيئة المذكورة على رأس المهرجان اختفت هذه التجهيزات الأمر الذي كان متزامنا مع تواصل صعود نجم النقابات الأمنية.

في واحد من بياناتها المتعلقة بالتعقيب على ما عرف بحادثة عرض “لطفي العبدلي ” بمهرجان صفاقس الدولي تعرضت الأطراف النقابية الأمنية لأمر على غاية من الأهمية و الخطورة ألا و هو اعتبار مسألة دخول الأعوان و ذويهم الى فضاء المهرجان منفذا اجتماعيا شأنه شأن مقتطعات الأكل أو وصولات البنزين و هو أمر يفتح باب التأويل على مصراعيه لتفكيك وفهم  سر تواجد جماهيري  ( في دورة الحال ) كان يفوق التذاكر المقتطعة و الدعوات الموزعة و الشارات المجانية بمرات عديدة و لعل ذلك كان جليا في حفلات ” بلطي ” و نوردو ” و هي الحفلات التي شهدت عجز عدد هام من أصحاب التذاكر عن الدخول و المواكبة لبلوغ الفضاء طاقة الاستيعاب القصوى.

مع ظهور بوادر سعي جدي لإعادة النظر جذريا في مسألة المهرجانات الصيفية بإيجاد هيكل مستقل لتسيرها في المستقبل فإن ذلك  لن يكون ذا جدوى ما لم يفتح الملف جديا مع وزارة الداخلية لتحديد مجال تدخل الجانب الأمني في مسألة تأمين هذه التظاهرات و توضيح حدود هذا التدخل و من أين يبدأ و أين يتوقف.

صديقنا الطيب مدير مهرجان صفاقس الدولي

تحية طيبة و بعد ..

حين يتعلق الأمر بالخوض في شأن ثقافي من قبيل تظاهرة بحجم و عراقة مهرجان صفاقس الدولي فإن الأدوات تختلف عن تلك المستعملة في تسيير الشأن الإداري اليومي الذي نعلم جميعنا قدرتك على القيام به ببراعة فالأمر هنا يحتاج إما لشخص حامل لمشروع ثقافي و بوسعه العمل على تطويعه و تنفيذه بالتشاور مع المجموعة المحيطة به أو و في مقام ثان لشخص من خارج هذه الدائرة و لكنه يمتلك القدرة على التجميع و التخطيط بمعية أبناء المجال و في الحالتين يحتاج الأمر إلى جرعة من الخيال افتقدتها دورة هذا العام.

صديقنا الطيب مدير المهرجان .. سقط المهرجان هذا العام في بئر التخبط الاتصالي خصوصا مع التعاطي مع الأحداث و الحوادث في بعض العروض حيث حاولتم مسك العصا من منتصفها باعتماد خطابات أريد لها أن تكون هادئة لكنها وصلت ضعيفة و مرتبكة خصوصا كلما تعلق الأمر بتجاوز أمني.

صديقنا الطيب مدير المهرجان .. في النهاية  فإن ”  الطبيعي في الأشياء هو أن يكون هناك أناس تحت الشمس وآخرون بين الظل والشمس وآخرون في الظل  ”  ..

 

خليل قطاطة