في الشهر السادس من سنة 2012 وفي عدد من أحيائها الشعبية شهدت العاصمة تونس مواجهات دامية بين الشرطة ومجموعات محسوبة على التيار السلفي بالبلاد، مواجهات امتدت لثلاثة أيام ليصطلح على تسميتها” بأحداث العبدلية” ولتنتهي بعدد من الجرحى وسقوط قتيل. قصة” أحداث العبدلية ” انطلقت بتناقل خبر على صفحات التواصل الاجتماعي مفاده أن عددا من الفنانين التشكيليين المجتمعين في تظاهرة ” ربيع الفنون ” بقصر العبدلية بالمرسى يعرضون لوحات فنية فيها تعد على الحرمات و المقدسات الدينية لينتهي الأمر باقتحام المعرض من قبل ” السلفيين ” و تهشيم بعض معروضاته والاعتداء على عدد من الفنانين الموجودين في المكان.

ظهور الفكر السلفي على الساحة و لكن هذه المرة خارج دائرة التنظير بالمرور الى الفعل كان مبعث قلق لدى عموم التونسيين الذين لم يكونوا قد تخلصو بعد من مشاهد قيام ذات المحسوبين على التيار ” السلفي ” قبل سنة من حادثة الحال ( 2011 ) بمهاجمة مقر قناة ” نسمة ” على خلفية عرضها للفيلم الايراني ” برسيبوليس ” هذا بالإضافة الى مهاجمة قاعة السينما ” افريكا ارت ” بمناسبة عرضها لفيلم وثائقي تحت عنوان ” لاربي لا سيدي ” للمخرجة التونسية  نادية الفاني هذا دون اغفال الحدث المفصلي المعروف شعبيا بـ ” غزوة المنقالة ” في اليوم الذي تصادم فيه المسرحيون الذين خرجوا يحتفلون بعيدهم العالمي في شهر مارس من سنة 2012 بالسلفيين في شارع ” الحبيب بورقيبة ” و ما نتج عن ذلك يومها من رشق للمسرحين بالبيض و اعتداءات لفظية و جسدية.

من يحكم هنا؟ 

خلال السنوات القليلة التالية لأحداث ديسمبر-جانفي 2011 ومع ظهور تسونامي” الحرية المباغتة ” شهد عدد القنوات التلفزية و الاذاعات و المحامل الاعلامية بأشكالها المتعددة بدوره انفلاتا كان من الجلي أن لا سقف له على المدى القصير على الأقل ليقف الجميع في تونس منتظرين ” لفتة ” من الطبيعة حتى تعجل بعملية ” الجزر ” و الفرز التدريجي مع بداية تشكل المشهد الاعلامي الجديد في تونس كان من السهل تمييز ملامح التوجه الثقافي المراد تصديره للواجهة.

 قناة الحوار التونسي على سبيل الذكر اعتمدت توجها يتبنى أسماء بعينها في المجال” الفني” تم تكريس تمريرها بمعدل مرة في الاسبوع كحد أدنى بطريقة توحي بأن هذه الأسماء هي قاطرة المشهد الثقافي التونسي وزبدته.

ان اعتبرنا أن هذا التكريس كان نابعا عن جهل فتلك مصيبة ولكن ان اعتبرناه نابعا عن سابق تخطيط فتلك مصيبة أعظم ولكن ما يهمنا في الموضوع هو أن واحدة من حلقات البث المباشر تلك خرجت عن السيطرة و التي كانت ضيفتها الفنانة الشعبية” زينة القصرينية” بالإضافة الى الفنان ” الشاب بشير ” اللذان مثلا بالمناسبة و على مدى زمن طويل عمودا ثابتا للتوجه المذكور. ” زينة القصرينية ” تحدثت عن ندمها المتعلق بمسيرتها الفنية و عن كون كل ما قدمته ” حرام ” و عن كون صوتها عورة و عن قرب اعتزالها و خروجها من الدائرة وسط ذهول الحاضرين من الضيوف و معدي البرنامج ليتم اللجوء الى ” الشاب بشير ” بهدف انقاذ الموقف لكنه و في صدمة أخرى أكد كل ما قالته مصرا على كون صوتها عورة بالفعل. كان من الطبيعي أن يختفي البث المباشر من القناة منذ تلك الحلقة حيث أدرك القائمون عليها أخيرا أن ذلك المثال الذي تم العمل على تكريسه و تدجينه في ” دارك ” قد انقلب عليك و أكلك.

بعد أيام من اطلاق قناة ” التاسعة ” الخاصة أيضا أدركنا و بما لا يدع مجالا للشك بأن الأمر يشبه و الى حد كبير قصة الفيلم الأمريكي ” Face Off ” بتبادل الوجوه بين القناة الجديدة و ” الحوار التونسي ” وباعتماد التوجه ذاته تقريبا باستثناء تجربة قصيرة جدا حاول فيها القائمون على القناة تقديم برنامج ثقافي يعني بالكتب امتد لموسم واحد بحلقة واحدة أساء فيه أصحاب القرار اختيار مقدمة البرنامج. ” قد لا نحب برهان بسيس ” لكننا نحب كوة الضوء الثقافية التي حفرها داخل ” قناة التاسعة ” خلال الأشهر الأخيرة.

في الشهر الثالث من سنة 2019 وتبعا لطلاء و محو أعمال فنية رسمها تشكيليون على أعمدة قنطرة القرش الأكبر بتونس العاصمة أعطى رئيس الحكومة ” يوسف الشاهد ” ” أمرا ” حكوميا بإعادة هذه الرسوم. اتصاليا جاء بلاغ رئاسة الحكومة و الذي تلاه بلاغ لوزارة الشؤون الثقافية جافا و ركيكا لكن عمقه و أثره الحقيقيين كانا في تأكيد ” جهل ” السلطة الحاكمة و غياب فهمها للعملية الثقافية برمتها حيث يرى رأس السلطة أن ازالة عمل فني هو خطأ بشري وراد لا يعرض صاحبه لأدنى مساءلة و أن عملا فنيا ينجز بأمر.

وزارة التفرهيد ” بهذا التوصيف المختصر تعرض رئيس الحكومة السابق ” هشام المشيشي ” لوزارة الشؤون الثقافية في معرض اجابته السريعة عن سؤال في حوار تلفزي قبل أن يقفز مباشرة الى الموضوع الموالي.  

من أجل ثقافة .. آمنة

في تونس تبقى القاعدة الأشهر و الاكثر استعمالا ربما هي أن ” يبقى الوضع كما هو عليه ” في انتظار أمرين أولهما ” المعجزة ” و التي ولت مع أصحابها أو ” الكارثة ” حتى يتسنى لنا فتح الملفات و هي الفرضية التي باتت الأقرب للمنطق والاعتقاد ولعل ما حصل في عرض ” لطفي العبدلي ” منذ أيام بمهرجان صفاقس الدولي خير تأكيد على ذلك بعد ما حصل من قطع للعرض و صعود بعض العناصر الأمنية على الركح بنية قطع العرض قبل الانسحاب التام من تأمين عرض حضره أكثر من عشرة آلاف دون الانتباه الى ما كان قد يخلفه ذلك من كارثة مميتة. ” قد لا نحب العبدلي ” لكننا قطعا لا يمكن أن ننساق الى فكرة تقييم ما يقدمه على حساب تبعات ما حصل في عرضه بصفاقس.

تدخل النقابات الأمنية و المحسوبين عليها في الشأن الثقافي كان و الى حدود ما قبل عرض ” العبدلي ” بصفاقس يقرأ من باب محاولة القائمين عليها توفير منفذ اجتماعي لمنظوريها بالحصول على تذاكر و دعوات مجانية لفائدتهم و لفائدة عائلاتهم و هو أمر يبقى مرفوضا من زاوية رفض تعميم المجانية على الجميع ( بلديات, ولايات, مندوبيات الثقافة ) و ليس على الأمنيين وحدهم هذا مع اعتبار تعسفهم الواضح في استعمال هذ ” الحق ” باستعمال أساليب و طرق أخرى لإنفاذ أعداد أعلى من المتفق عليها سابقا سواء في مهرجان صفاقس  أو في مهرجانات أخرى.

الأمر اللافت الذي أصبح من الممكن مشاهدته بالعين المجردة هو أن هذا العرض كان دليلا قويا على انتقال حقيقي للخلاف السياسي في تونس من أطره الطبيعية الى خشبات المسارح والفضاءات الثقافية وانخراط بعض المحسوبين على المؤسسة الأمنية فيه وهو أمر يدعو للوقوف جيدا عنده لاعتباره تهديدا صريحا للعملية الفنية والثقافية برمتها ولكونه دليلا على انحراف بعض المحسوبين على المؤسسة الأمنية عن دورهم الأصلي.

البيانات الأمنية النقابية التي تهاطلت بعد عرض العبدلي في صفاقس كانت بدورها مؤشرات على الأسوأ القادم بتأكيدها واجتماعها على عدم استعدادها المستقبلي لتأمين عروض تمس من الذوق العام الذي نعتقد أن لا كراس شروط له وألا أحد له سلطة تقدير من أين يبدأ وأين يتوقف

في النهاية و رغم انتشار خبر حصول ” اتفاقات ” حول عودة ” العبدلي ” لاستكمال عروضه فإن الثقافي في تونس و على ما يبدو يدخل فصلا جديدا في تجاذبه و محاولة جره الى مربع من كانوا في ” Ultras ” ( بلغة كرة القدم )  السلطة أو  الجهة المقابلة أمر نراه انطلق مع شباب التيار السلفي لكننا لا نرى نهايته من هنا على الاقل

خليل قطاطة