زمن لا بأس به هو ذاك الذي أنفقناه هدرا قبل أن ندرك وبشكل مفاجئ أن ” دنيا مسعود ” المغنية التي نحب والتي نضع أغانيها في القائمات المفضلة على منصة ” اليوتيوب ” هي ذاتها الممثلة التي أدّت وبشكل لافت دور ” كريمة السكرتيرة ” في الفيلم المصري ” جعلتني مجرما “. معلومة قد لا تبدو مهمة لكن الأهم فيها ربما هو لماذا نحب هذه السيدة تحديدا حين تكون على المسرح في دور المغنية؟؟؟
في واحدة من حواراتها الإعلامية القليلة أسرّت ” دنيا مسعود ” لمقدمـ/ة البرنامج حينها بأنها تقضي ساعات من يومها في مجالسة بوابي العمارات على مصاطبهم في بحث مفترض عن الأغاني التي يحتفظون بها لأنفسهم بعد أن كانوا قد جلبوها من قراهم البعيدة ومن الأماكن التي ولدوا وعاشوا فيها. أغان من البديهي ألا يعرفها أحد ومن الطبيعي ألا تكون موجودة على اليوتيوب أو في الإذاعات التقليدية هذا طبعا قبل أن تفتح لها ” دنيا مسعود ” مجالا لترى النور على المسارح وفي المنصات.
الإجابة إذن هي التفاصيل التي نبحث عنها في كل عمل ووراء كل أثر وأداء وهو أمر يكاد يوازي انتقالنا في مرحلة عمرية سابقة من الاعجاب المحموم بأغاني ” الشيخ امام عيسى ” الى النبش عن تاريخ وملابسات وكواليس كتابة كل أغنية خصوصا تلك التي كتبها ” أحمد فؤاد نجم “.
في الحرب كما في السينما والموسيقى والمسرح والكتابة، كواليس عدة وتفاصيل متشعبة وحكايات تروى خصوصا بعد أن يهدأ الجميع وبعد ان ننجح في إحصاء الناجين ونتمكن وللمرة الأولى من الاستماع لهم والى حكاياتهم التي لا يعرفها أحد.
في ” السبّاحون ” ( The Swimmers ) لـسالي الحسيني و رغم أن السياق العام للعمل يشي بكوننا و بامتياز إزاء ” سينما حرب ” مكتملة الأركان الا ان الغريب هو أن هذه” الحرب ” و على امتداد أكثر من ساعتين ( المدة الزمنية للعمل ) لم تكن سوى ضيف شرف قليل الظهور و ربما كانت مهمتها الأساسية فقط هي دفعنا رفقة أبطال العمل داخل أمواج بحر ” ايجة ” قبل الانسحاب بنفس تلك الطريقة الماكرة التي انسحب بها ” وسيط ” الرحلة دافعا بالجميع داخل قارب مطاطي دون مرافقتهم.
” السبّاحون ” أم ” السبّاحات “
حين نتقاسم فعل الجلوس في ذات الصحن مع اللغة ” الإنجليزية ” متواجهين معها وجها لوجه تعود بنا الذاكرة القصيرة الى ذلك الإحساس الذي كنا نشعر به صغارا حين كنا نذهب الى مصانع ألواح الثلج لأغراض غذائية، عالم من البرودة الصناعية اللزجة التي اعتقدنا طويلا أن العاملين فيها وفي أوقات فراغهم يصنعون رجالا من الثلج و يتزلجون زهوا في جنتهم قياسا بالسعير في الخارج بينما كانوا ينظرون شزرا فيما فهمنا لاحقا أنهم كانوا وبدورهم يحسدوننا على نعيم الشمس الخارجي الذي كانوا بالكاد يرونه.
الترجمة فعل خيانة هذا تقريبا خلاصة ما تعلمناه من الذين خاضوها أو الذين تناولوها بالدرس أو النقد لكن ذلك قد ينطبق وبالإجماع شبه الكلي على كل لغات الدنيا الا اللغة ” الإنجليزية ” التي تواصل في كونها قالبا قاسيا من الثلج يقاوم وبشدة كل العوامل الخارجية.
عنوان الفيلم موضوع الحديث وبلغته الأصلية ” الإنجليزية ” هو ” The Swimmers ” ولا أحد هنا قد يملك من الجرأة القدر الكافي ليقول بأنه سيكون ” أمينا ” في الترجمة للعربية مثلا فهل هو ” السبّاحون ” أم ” السبّاحات ” فاللغة الأم موضوع الحديث تواصل اشاحة وجهها عنا مهما أشرنا لها أو حتى شككنها بدبوس نحمله في يدنا.
في النهاية والبداية معا يبدو أننا ننتصر لاجتراح الترجمة التي نريد من سياق العمل السينمائي نفسه فالعمل المتعلق فعلا بقصة ” سباحتين ” اثنتين هو في النهاية أوسع من هذه الجبة بتعرضه وقصه لمئات الحكايات الأخرى المعلنة منها وغير المعلنة لذلك نذهب الى وسمه بالـ ” السبّاحون “.
انتبه فلم قد يخفي آخر..
منذ تنزيل الإعلان الرسمي لفيلم ” السباحون ” على منصة “NETFLIX ” كانت الصور الأولى والمقاطع القصيرة المنتقاة تشي بوقوعنا على عمل في صميم سينما الحرب التي تعودنا ومن خلال ترسانة من الأعمال التي تصورها منذ السينما الأولى أن تعود على الأسباب او تنتهي بنا الى النتائج، أن تقف بنا بين جبهتين أو تفتح عدستها بشكل يجعلها تنتصر لطرف على حساب آخر حتى وان كان ذلك بمكر خفي يلقي باللوم على جهة بعينها ولكن دون يلقي به.
منذ سنوات طويلة كيّف المنطوق الشعبي الدارج في تونس نفسه على أن يطلق تسمية ” الحرقة ” على عمليات الهجرة غير الشرعية قبل أن تبادر ومنذ سنوات قليلة بعض المنظمات المعنية بشؤون الهجرة واللاجئين الى الدعوة لاعتماد تسمية رسمية مغايرة لتصبح” الهجرة غير النظامية ” فكان أن تغيرت التسمية فعلا غير أن الهجرة حافظت على كونها غير شرعية وغير نظامية أيضا بل وأمعنت في كونهــــا ” حرقة “.
في ” السبّاحون ” جرّدت مخرجة العمل والمساهمة أيضا في كتابة نصه، نفسها من فكرة العودة الى أصل التسمية ببحث قد لا يكون مجديا عن التسميات وعن الأسباب الأولى للحرب بل واستغنت حتى عن اظهار مظاهر القصف والدمار باستثناء بضع مشاهد لا تكاد تذكر. قد تذهب القراءات الى تغليب فكرة ” الــلاموقف ” الذي يعتبر وفي حد ذاته ” موقفا ” لكن فتحة الكاميرا الأوسع في العمل قد اختارت وبشكل جد واضح وصريح التركيز على ” الانسان ” من داخله بإظهار سعي محموم للذهاب نحو نقطة الضوء دون الالتفات الى الذين يطاردونه أو يسعون الى تثبيط عزائمه.
لئن كانت ” سوريا ” منطلقا لفكرة عبور النفق المظلم فإن القائمين على العمل اختاروا وبشكل يبدو غير مجاني تعزيز الحضور بتجميع عدد أكبر من الجنسيات ومن الأعراق من الهاربين أيضا الى ما يعتقد أنه ” حال أفضل “. القائمون على العمل اختاروا تصوير نهاية النفق ” المفترضة ” دون توجيه الكاميرا الى ما خلف ضهور الممثلين والشخصيات في ” حياد ” يمنح للمتفرج حرية كتابة واخراج وتصوير فيلم آخر تنطبق أحداثه وتطوراته بكل ما فيها على ما يراه هو مناسبا في انصراف تام للانتصار ” للإنسان ” دون غيره.
لوهلة قد تبدو قصة كل من ” سارة و يسرى ماريديني ” مهمة و قد نذهب جميعا الى اقتفاء أثر قصة تحول ” يسرى مارديني ” من لاجئة سنة 2016 الى بطلة أولمبية في مجال السباحة ابان مشاركتها ضمن منتخب اللاجئين في ” ريو دي جنيرو ” الأرجنتين و قد نطّرب لفكرة تحول شقيقتها ” سارة مارديني ” الى ناشطة اغاثية تقع محاكمتها لنفس السبب و لذات النشاط لكن ذلك سرعان ما يتحول وبدوره الى تفاصيل جد دقيقة بل و غير مرئية في اللحظة التي تطالعنا فيها و من جديد صور تلك المساحة التي تغطيها سترات النجاة ذات اللونين البرتقالي و الأصفر المميزين و قد انتشرت على شاطئ بحر ” ايجة ” من الجانب اليوناني. تقف العين عاجزة عن الإحصاء تماما مثلما يتوقف العقل عن محاولة استيعاب مباغت لذلك من الكم من الحكايات التي تخفيها كل سترة ملقاة في الشمس وعن عدد الذين حملتهم ستراتهم الى بر” الأمان ” وعن الذين خذلتهم قواهم فاستقروا في قعر البحر دون أن تمنحهم الطبيعة حتى ترف التحول الى مجرد ” رقم “.
السينما آخر من يلتحق بالحافلة
مرور فذ هو ذاك الذي واكبنا في العشرية الأخيرة حيث بتنا مقتنعين تمام الاقتناع بسقوط مقولة التاريخ الذي يكتبه المنتصرون لصالح تعذّر كتابة التاريخ لجهل المنتصرين بأبسط قواعد الكتابة. أحرق بوعزيزي تونس نفسه وأحدثت رفة جناح الفراشة طوفانا سرعان ما انحسر وعاد الجميع الى مقاعدهم الأصلية في الحافلة في انتظار التحاق “السينما ” حتى أن السائق مسح الزجاج الأمامي مرتين وتلا دعاء السفر أكثر من أربع مرات وتبرم حتى فشل في إخفاء ذلك ولكن أين السينما؟؟ تأخرت السينما عن الالتحاق بالركّب بعد أن قضت ليلة من الكوابيس المخيفة فكانت كلما نعس جفنها الا وطالعتها ملايين آلات التصوير والهواتف التي تهددها والتي التقطت وبشكل استباقي تفاصيل ما جرى في شوارع وساحات وميادين عدد من الدول العربية في شكل مقاطع استقرت وبشكل نهائي في ” اليوتيوب ” او تناقلتها القنوات المختلفة بشكل مباشر حتى أن المشهد صار أشبه بمخرج سينمائي جالس داخل حمام عمومي يقرأ كما دأب ما يكتبه المراهقون على الباب الداخلي من أرقام هواتف وعبارات نابية وجمل غزل ليجد نفسه فجأة يكتب: ليس لي ما أضيف.
ما حصل في الاجمال هو محاولات متفاوتة المستوى راوحت مكانها بين سينما الثورة وثورة السينما حيث عمد الكثير من المخرجين في تونس ومصر بشكل خاص الى اعتماد مقاطع ومشاهد تم التقاط أغلبها بشكل عفوي زمن ” التحركات ” بدمجها داخل ما يعرف تقنيا بالسينما التسجيلية التي تقوم على توظيف وثائق حقيقية (مقاطع فيديو، موسيقى، خطابات سياسية) ومن ثم البناء عليها وحولها للخروج بعمل فني يلامس تلك الحقبة الزمنية أو يكاد. أما عن ثورة السينما فالأمر يبدو مؤجلا قليلا و ان بدأت تباشيره تظهر بعض الشيء في ثورات منفردة نراها هنا و هناك من تثوير في النصوص الروائية الى تغيير حقيقي في الموسيقى التصويرية الى تمرد على التكاليف و التقنيات حيث صار من الكافي اليوم أن تكون لك عين متمرسة و هاتف ذكي تحسن توظيفه.
خليل قطاطة